ذكر
ملك المسلمين دمياط من الفرنج
لما ملك الفرنج
دمياط أقاموا بها ، وبثوا سراياهم في كل ما جاورهم من البلاد ، ينهبون ويقتلون ، فجلا أهلها عنها ، وشرعوا في عمارتها وتحصينها ، وبالغوا في ذلك حتى إنها بقيت لا ترام .
وأما
الملك الكامل فإنه أقام بالقرب منهم في أطراف بلاده يحميها منهم .
ولما سمع الفرنج في بلادهم بفتح
دمياط على أصحابهم أقبلوا إليهم يهرعون من كل فج عميق ، وأصبحت دار هجرتهم ، وعاد
الملك المعظم صاحب
دمشق إلى
الشام فخرب
البيت المقدس ، وإنما فعل ذلك لأن الناس كافة خافوا الفرنج ، وأشرف الإسلام وجميع أهله وبلاده على خطة خسف في شرق الأرض وغربها : أقبل
التتر من
[ ص: 308 ] المشرق حتى وصلوا إلى نواحي
العراق وأذربيجان وأران وغيرها ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى ; وأقبل الفرنج من
المغرب فملكوا مثل
دمياط في
الديار المصرية ، مع عدم الحصون المانعة بها من الأعداء ، وأشرف سائر البلاد
بمصر والشام على أن تملك ، وخافهم الناس كافة ، وصاروا يتوقعون البلاء صباحا ومساء .
وأراد
أهل مصر الجلاء عن بلادهم خوفا من العدو ، (
ولات حين مناص ) ، والعدو قد أحاط بهم من كل جانب ، ولو مكنهم
الكامل من ذلك لتركوا البلاد خاوية على عروشها ، وإنما منعوا منه فثبتوا .
وتابع
الملك الكامل كتبه إلى أخويه المعظم صاحب
دمشق ،
nindex.php?page=showalam&ids=13710والملك الأشرف موسى بن العادل ، صاحب
ديار الجزيرة وأرمينية وغيرهما ، يستنجدهما ، ويحثهما على الحضور بأنفسهما ، فإن لم يكن فيرسلان العساكر إليه ، فسار صاحب
دمشق إلى
الأشرف بنفسه
بحران ، فرآه مشغولا عن إنجادهم بما دهمه من اختلاف الكلمة عليه ، وزوال الطاعة عن كثير ممن كان يطيعه ، ونحن نذكر ذلك سنة خمس عشرة وستمائة - إن شاء الله - عند وفاة
الملك القاهر ، صاحب
الموصل ، فليطلب من هناك ; فعذره ، وعاد عنه ، وبقي الأمر كذلك مع الفرنج .
فأما
nindex.php?page=showalam&ids=13710الملك الأشرف فزال الخلف من بلاده ، ورجع الملوك الخارجون عن طاعته إليه ، واستقامت له الأمور إلى سنة ثماني عشرة وستمائة ،
والملك الكامل مقابل الفرنج .
فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة علم بزوال مانع
nindex.php?page=showalam&ids=13710الملك الأشرف عن إنجاده ، فأرسل يستنجده وأخاه ، صاحب
دمشق ، فسار صاحب
دمشق المعظم إلى الأشرف يحثه على المسير ، ففعل ، وسار إلى
دمشق فيمن معه من العساكر ، وأمر الباقين باللحاق به إلى
دمشق ، وأقام بها ينتظرهم ، فأشار عليه بعض أمرائه وخواصه بإنفاذ العساكر والعود إلى بلاده خوفا من اختلاف يحدث بعده ، فلم يقبل قولهم ، وقال قد خرجت للجهاد ، ولا بد من إتمام ذلك العزم ، فسار إلى
مصر .
وكان الفرنج قد ساروا عن
دمياط في الفارس والراجل ، وقصدوا
الملك الكامل ،
[ ص: 309 ] ونزلوا مقابله ، بينهما خليج من النيل يسمى
بحر أشموم ، وهم يرمون بالمنجنيق والجرخ إلى عسكر المسلمين ، وقد تيقنوا هم وكل الناس أنهم يملكون
الديار المصرية
وأما الأشرف فإنه سار حتى وصل
مصر ، فلما سمع أخوه
الكامل بقربه منهم توجه إليه ، فلقيه ، واستبشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما ، لعل الله يحدث بذلك نصرا وظفرا .
وأما
الملك المعظم ، صاحب
دمشق ، فإنه سار أيضا إلى
ديار مصر ، وقصد
دمياط ظنا منه أن أخويه وعسكريهما قد نازلوها ، وقيل بل أخبر في الطريق أن الفرنج قد توجهوا إلى
دمياط ، فسابقهم إليها ليلقاهم من بين أيديهم ، وأخواه من خلفهم ، والله أعلم .
ولما اجتمع
الأشرف بالكامل استقر الأمر بينهما على التقدم إلى خليج من النيل يعرف
ببحر المحلة ، فتقدموا إليه ، فقاتلوا الفرنج ، وازدادوا قربا ، وتقدمت شواني المسلمين من النيل ، وقاتلوا شواني الفرنج ، فأخذوا منها ثلاث قطع بمن فيها من الرجال ، وما فيها من الأموال والسلاح ، ففرح المسلمون بذلك ، واستبشروا ، وتفاءلوا ، وقويت نفوسهم ، واستطالوا على عدوهم .
هذا يجري والرسل مترددة بينهم قي تقرير قاعدة الصلح ، وبذل المسلمون لهم تسليم
البيت المقدس ،
وعسقلان ،
وطبرية ،
وصيدا ،
وجبلة ،
واللاذقية ، وجميع ما فتحه
صلاح الدين من الفرنج بالساحل ، وقد تقدم ذكره ما عدا
الكرك ، ليسلموا
دمياط ، فلم يرضوا وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب
القدس ليعمروه بها ، فلم يتم بينهم أمر وقالوا : لا بد من
الكرك .
فبينما الأمر في هذا ، وهم يمتنعون ، اضطر المسلمون إلى قتالهم ، وكان الفرنج لاعتدادهم بنفوسهم لم يستصحبوا معهم ما يقوتهم عدة أيام ، ظنا منهم أن العساكر الإسلامية لا تقوم لهم ، وأن القرى والسواد جميعه يبقى بأيديهم ، يأخذون منه ما أرادوا من الميرة ، لأمر يريده الله تعالى بهم ، فعبر طائفة من المسلمين إلى الأرض التي عليها الفرنج ، ففجروا النيل ، فركب الماء أكثر تلك الأرض ، ولم يبق للفرنج جهة
[ ص: 310 ] يسلكون منها غير جهة واحدة فيها ضيق ، فنصب
الكامل حينئذ الجسور على النيل ، عند
أشموم ، وعبرت العساكر عليها ، فملك الطريق الذي يسلكه الفرنج إن أرادوا العود إلى
دمياط ، فلم يبق لهم خلاص .
واتفق في تلك الحال أنه وصل إليهم مركب كبير للفرنج من أعظم المراكب يسمى مرمة ، وحوله عدة حراقات تحميه ، والجميع مملوء من الميرة والسلاح ، وما يحتاجون إليه ، فوقع عليها شواني المسلمين ، وقاتلوهم ، فظفروا بالمرمة وبما معها من الحراقات ، أخذوها ، فلما رأى الفرنج ذلك سقط في أيديهم ، ورأوا أنهم قد ضلوا الصواب بمفارقة
دمياط في أرض يجهلونها .
هذا وعساكر المسلمين محيطة بهم يرمونهم بالنشاب ، ويحملون على أطرافهم ، فلما اشتد الأمر على الفرنج أحرقوا خيامهم ، ومجانيقهم ، وأثقالهم ، وأرادوا الزحف إلى المسلمين ومقاتلتهم ، لعلهم يقدرون على العود إلى
دمياط ، فرأوا ما أملوه بعيدا ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، لكثرة الوحل والمياه حولهم ، والوجه الذي يقدرون على سلوكه قد ملكه المسلمون .
فلما تيقنوا أنهم قد أحيط بهم من سائر جهاتهم ، وأن ميرتهم قد تعذر عليهم وصولها ، وأن المنايا قد كشرت لهم عن أنيابها ، ذلت نفوسهم ، وتكسرت صلبانهم ، وضل عنهم شيطانهم ، فراسلوا
الملك الكامل والأشرف يطلبون الأمان ليسلموا
دمياط بغير عوض ، فبينما المراسلات مترددة إذ أقبل جمع كبير ، لهم رهج شديد ، وجلبة عظيمة ، من جهة
دمياط ، فظنه المسلمون نجدة أتت للفرنج ، فاستشعروا ، وإذا هو
الملك المعظم ، صاحب
دمشق ، قد وصل إليهم ، وكان قد جعل طريقه على
دمياط ، لما ذكرناه ، فاشتدت ظهور المسلمين ، وازداد الفرنج خذلانا ووهنا ، وتمموا الصلح على تسليم
دمياط ، واستقرت القاعدة والأيمان سابع رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة ، وانتقل ملوك الفرنج ، وكنودهم ، وقمامصتهم إلى
الملك الكامل والأشرف رهائن على تسليم
دمياط : ملك
عكا ، ونائب بابا صاحب
رومية ، وكند ريش ، وغيرهم ، وعدتهم عشرون ملكا ، وراسلوا قسوسهم ورهبانهم إلى
دمياط في التسليم ، فلم يمتنع من
[ ص: 311 ] بها ، وسلموها إلى المسلمين تاسع رجب المذكور ، وكان يوما مشهودا .
ومن العجب أن المسلمين لما تسلموها وصلت للفرنج نجدة في البحر ، فلو سبقوا المسلمين إليها لامتنعوا من تسليمها ، ولكن سبقهم المسلمون ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولم يبق بها من أهلها إلا آحاد ، وتفرقوا أيدي سبا ، بعضهم سار عنها باختياره ، وبعضهم مات ، وبعضهم أخذه الفرنج .
ولما دخلها المسلمون رأوها وقد حصنها الفرنج تحصينا عظيما بحيث بقيت لا ترام ، ولا يوصل إليها ، وأعاد الله ، سبحانه وتعالى ، الحق إلى نصابه ، ورده إلى أربابه ، وأعطى المسلمين ظفرا لم يكن في حسابهم ، فإنهم كانت غاية أمانيهم أن يسلموا البلاد التي أخذت منهم
بالشام ليعيدوا
دمياط ، فرزقهم الله إعادة
دمياط ، وبقيت البلاد بأيديهم على حالها ، فالله المحمود المشكور على ما أنعم به على الإسلام والمسلمين من كف عادية هذا العدو ، وكفاهم شر
التتر ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى .