[ ص: 408 ] ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة
623
ذكر
ملك جلال الدين تفليس .
في هذه السنة ثامن ربيع الأول ، فتح
جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة
تفليس من
الكرج ، وسبب ذلك أنا قد ذكرنا سنة اثنتين وعشرين وستمائة الحرب بينه وبينهم ، وانهزامهم منه ، وعوده إلى
تبريز بسبب الخلف الواقع فيها ، فلما استقر الأمر في
أذربيجان ، عاد إلى بلد
الكرج في ذي الحجة من السنة ، وخرجت سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، ودخلت هذه السنة ، فقصد بلادهم ، وقد عادوا فحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم ، فاجتمعوا في جمع كثير لا يحصى ، فطمعوا بذلك ، ومنتهم أنفسهم الأباطيل ، ووعدهم الشيطان الظفر ، (
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) ، فلقيهم وجعل لهم الكمين في عدة مواضع ، والتقوا واقتتلوا ، فولى
الكرج منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه ، ولا الوالد على ولده ، وكل منهم قد أهمته نفسه ، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب ، فلم ينج منهم إلا اليسير الشاذ الذي لا يعبأ به ، وأمر
جلال الدين عسكره أن لا يبقوا على أحد ، وأن يقتلوا من وجدوا ، فتبعوا المنهزمين يقتلونهم ، وأشار عليه أصحابه بقصد
تفليس دار ملكهم ، فقال : لا حاجة لنا إلى أن نقتل رجالنا تحت الأسوار ، إنما إذا أفنيت
الكرج ، أخذت البلاد صفوا عفوا .
ولم تزل العساكر تتبعهم وتستقصي في طلبهم إلى أن كادوا يفنونهم ، فحينئذ قصد
تفليس ونزل بالقرب منها ، وسار في بعض الأيام في طائفة من العسكر ، وقصدها لينظر إليها ، ويبصر مواضع النزول عليها ، وكيف يقاتلها ، فلما قاربها ، كمن أكثر العسكر الذي معه في عدة مواضع ، ثم تقدم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس ، فلما رآه
[ ص: 409 ] من بها من
الكرج ، طمعوا فيه لقلة من معه ، ولم يعلموا أنه معهم ، فظهروا إليه فقاتلوه ، فتأخر عنهم ، فقوي طمعهم فيه لقلة من معه ، فظنوه منهزما فتبعوه ، فلما توسطوا العساكر ، خرجوا عليهم ووضعوا السيف فيهم ، فقتل أكثرهم ، وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها ، وتبعهم المسلمون ، فلما وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الإسلام ، وباسم
جلال الدين ، فألقى
الكرج بأيديهم واستسلموا ; لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات المذكورة ، فقل عددهم ، وملئت قلوبهم خوفا ورعبا ، فملك المسلمون البلد عنوة وقهرا بغير أمان ، وقتل كل من فيه من
الكرج ، ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام ، وأقر بكلمتي الشهادة ، فإنه أبقى عليه ، وأمرهم فتختنوا وتركهم .
ونهب المسلمون الأموال ، وسبوا النساء واسترقوا الأولاد ، ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتل ونهب وغيره .
وتفليس هذه من أحصن البلاد وأمنعها ، وهي على جانبي
نهر الكر ، وهو نهر كبير ، ولقد جل هذا الفتح وعظم موقعه في بلاد الإسلام وعند المسلمين ، فإن
الكرج كانوا قد استطالوا عليهم ، وفعلوا بهم ما أرادوا ، فكانوا يقصدون أي بلاد
أذربيجان أرادوا ، فلا يمنعهم عنها مانع ، ولا يدفعهم عنها دافع ، وهكذا
أرزن الروم ، حتى إن صاحبها لبس خلعة ملك
الكرج ، ورفع على رأسه علما في أعلاه صليب ، وتنصر ولده رغبة في نكاح ملكة
الكرج ، وخوفا منهم ليدفع الشر عنه ، وقد تقدمت القصة ، وهكذا
دربند شروان .
وعظم أمرهم إلى حد أن
ركن الدين بن قلج أرسلان ، صاحب قونية وأقصرا وملطية وسائر بلاد الروم التي للمسلمين ، جمع عساكره ، وحشد معها غيرها فاستكثر ، وقصد
أرزن الروم ، وهي لأخيه
nindex.php?page=showalam&ids=16253طغرل شاه بن قلج أرسلان ، فأتاه
الكرج وهزموه ، وفعلوا به وبعسكره كل عظيم ، وكان أهل
دربند شروان معهم في الضنك والضيقة .
وأما
أرمينية ، فإن
الكرج دخلوا
مدينة أرجيش ، وملكوا
قرس وغيرها ، وحصروا
خلاط ، فلولا أن الله - سبحانه - من على المسلمين بأسر
إيواني مقدم عساكر
الكرج [ ص: 410 ] لملكوها ، فاضطر أهلها إلى أن بنوا لهم بيعة في القلعة يضرب فيها الناقوس ، فرحلوا عنهم ، وقد تقدم تفصيل هذه الحملة .
ولم يزل هذا الثغر من أعظم الثغور ضررا على المجاورين له من الفرس ، قبل الإسلام ، وعلى المسلمين بعدهم ، من أول الإسلام إلى الآن ، ولم يقدم أحد عليهم هذا الإقدام ، ولا فعل بهم هذه الأفاعيل ، فإن
الكرج ملكوا
تفليس سنة خمس عشرة وخمسمائة ، والسلطان حينئذ
محمود بن محمود بن ملكشاه السلجوقي ، وهو من أعظم السلاطين منزلة ، وأوسعهم مملكة ، وأكثرهم عساكر ، فلم يقدر على منعهم عنها ، هذا مع سعة بلاده ، فإنه كان له
الري وأعمالها ،
وبلد الجبل وأصفهان ،
وفارس وخوزستان ،
والعراق وأذربيجان ،
وأران وأرمينية ،
وديار بكر والجزيرة ،
والموصل والشام وغير ذلك ، وعمه
السلطان سنجر له
خراسان وما وراء النهر ، فكان أكثر بلاد الإسلام بأيديهم ، ومع هذا فإنه جمع عساكره سنة تسع عشرة وخمسمائة ، وسار إليهم بعد أن ملكوها ، فلم يقدر عليهم .
ثم ملك بعده أخوه
السلطان مسعود ، وملك
إلدكز بلد الجبل والري ،
وأصفهان وأذربيجان وأران ، وأطاعه صاحب
خلاط ، وصاحب
فارس ، وصاحب
خوزستان ، وجمع وحشد لهم ، وكان قصاراه أن يتخلص منهم ، ثم ابنه
البهلوان بعده ، وكانت البلاد في أيام أولئك عامرة كثيرة الأموال والرجال ، فلم يحدثوا أنفسهم بالظفر بهؤلاء ، حتى جاء هذا السلطان والبلاد خراب قد أضعفها
الكرج أولا ، ثم استأصلها
التتر - لعنهم الله - على ما ذكرنا ، ففعل بهم هذه الأفاعيل ، فسبحان من إذا أراد أمرا ، قال له كن فيكون .