يوم البشر
لما استقر الأمر
لعبد الملك ، واجتمع المسلمون عليه - قدم عليه
الأخطل الشاعر التغلبي ، وعنده
الجحاف بن حكيم السلمي ، فقال له
عبد الملك : أتعرف هذا يا
أخطل ؟ قال : نعم ، هذا الذي أقول فيه :
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر بقتلى أصيبت من سليم وعامر
[ ص: 374 ] وأنشد القصيدة حتى فرغ منها ، وكان
الجحاف يأكل رطبا ، فجعل النوى يتساقط من يده غيظا ، وأجابه وقال :
بلى سوف نبكيهم بكل مهند وننعى عميرا بالرماح الشواجر
ثم قال : يا ابن النصرانية ، ما كنت أظن أن تجترئ علي بمثل هذا ! فأرعد
الأخطل من خوفه ، ثم قام إلى
عبد الملك وأمسك ذيله وقال : هذا مقام العائذ بك . فقال : أنا لك مجير . ثم قام
الجحاف ومشى وهو يجر ثوبه ولا يعقل به ، فتلطف لبعض كتاب الديوان حتى اختلق له عهدا على صدقات
تغلب وبكر بالجزيرة ، وقال لأصحابه : إن أمير المؤمنين قد ولاني هذه الصدقات ، فمن أراد اللحاق بي فليفعل .
ثم سار حتى أتى
رصافة هشام فأعلم أصحابه ما كان من
الأخطل إليه ، وأنه افتعل كتابا ، وأنه ليس بوال ، فمن كان أحب أن يغسل عني العار وعن نفسي فليصحبني ، فإني قد أقسمت أن لا أغسل رأسي حتى أوقع في
بني تغلب . فرجعوا عنه غير ثلاثمائة قالوا له : نموت بموتك ، ونحيا بحياتك .
فسار ليلته حتى صبح
الرحوب ، وهو ماء
لبني جشم بن بكر من
تغلب ، فصادف عليه جماعة عظيمة منهم ، فقتل فيهم مقتلة عظيمة ، وأسر
الأخطل وعليه عباءة وسخة ، فظنه الذي أسره عبدا ، فسأله من هو ، فقال : عبد . فأطلقه ، فرمى بنفسه في جب ، فخاف أن يراه من يعرفه فيقتله . فلما انصرف
الجحاف خرج من الجب ، وأسرف
الجحاف في القتل ، وبقر البطون عن الأجنة ، وفعل أمرا عظيما ، فلما عاد عنهم قدم
الأخطل على
عبد الملك فأنشده قوله : لقد أوقع
الجحاف بالبشر وقعة إلى الله منها المشتكى والمعول
فهرب
الجحاف ، فطلبه
عبد الملك ، فلحق ببلاد
الروم ، وقال بعد وقعة
البشر يخاطب
الأخطل :
[ ص: 375 ] أبا مالك هل لمتني أو حضضتني على القتل أم هل لامني كل لائم
ألم أفنكم قتلا وأجدع أنفكم بفتيان قيس والسيوف الصوارم
بكل فتى ينعى عميرا بسيفه إذا اعتصمت أيمانهم بالقوائم
فإن تطردوني تطردوني وقد جرى بي الورد يوما في دماء الأراقم
نكحت بسيفي في زهير ومالك نكاح اغتصاب لا نكاح دراهم
في أبيات .
ولم يزل
الجحاف يتردد في بلاد
الروم من
طرابزندة إلى
قاليقلا ، وبعث إلى بطانة
عبد الملك من
قيس حتى أخذوا له الأمان ، فآمنه
عبد الملك ، فقدم عليه ، فألزمه ديات من قتل ، وأخذ منه الكفلاء وسعى فيها ، فأتى
الحجاج من
الشام فطلب منه ، فقال له : متى عهدتني خائنا ؟ فقال له : ولكنك سيد قومك ولك عمالة واسعة . فقال : لقد ألهمت الصدق . فأعطاه مائة ألف درهم ، وجمع الديات فأوصلها .
ثم تنسك بعد وصلح ، ومضى حاجا ، فتعلق بأستار الكعبة وجعل ينادي : اللهم اغفر لي ، وما أظن تفعل . فسمعه
nindex.php?page=showalam&ids=12691محمد ابن الحنفية فقال : يا شيخ ، قنوطك شر من ذنبك .
( وقيل : إن سبب عوده كان أن الجحاف أكرمه ملك الروم وقربه ، وعرض عليه النصرانية ويعطيه ما شاء ، فقال : ما أتيتك رغبة عن الإسلام . ولقي الروم تلك السنة عساكر المسلمين صائفة ، فانهزم المسلمون ، وأخبروا
عبد الملك أنهم هزمهم
الجحاف ، فأرسل إليه
عبد الملك يؤمنه ، فسار وقصد
البشر وبه حي من بشر ، وقد لبس أكفانه وقال : قد جئت إليكم أعطي القود من نفسي . وأراد شبابهم قتله ، فنهاهم شيوخهم ، فعفوا عنه
[ ص: 376 ] وحج ، فسمعه
عبد الله بن عمر وهو يطوف ويقول : اللهم اغفر لي ، وما أظنك تفعل ؟ فقال
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : لو كنت
الجحاف ما زدت على هذا . قال : فأنا
الجحاف ) .