ذكر
وثوب أهل البصرة بالحجاج
في هذه السنة خرج
الحجاج من
الكوفة إلى
البصرة ، واستخلف على
الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة ، فلما قدم
البصرة خطبهم بمثل خطبته
بالكوفة ، وتوعد من رآه منهم بعد ثلاثة ولم يلحق
بالمهلب ، فأتاه
شريك بن عمرو اليشكري ، وكان به فتق ، وكان أعور يضع على عينه قطعة ، فلقب ذا الكرسفة ، فقال : أصلح الله الأمير ، إن بي فتقا ، وقد رآه
nindex.php?page=showalam&ids=15539بشر بن مروان فعذرني ، وهذا عطائي مردود في بيت المال . فأمر به فضربت عنقه ، فلم يبق
بالبصرة أحد من عسكر
المهلب إلا لحق به . فقال
المهلب : لقد أتى
العراق رجل ذكر . وتتابع الناس مزدحمين إليه حتى كثر جمعه .
ثم سار
الحجاج إلى رستقباذ ، وبينها وبين
المهلب ثمانية عشر فرسخا ، وإنما أراد أن يشد ظهر
المهلب وأصحابه بمكانه ، فقام
برستقباذ خطيبا حين نزلها فقال : يا أهل
المصرين ! هذا المكان والله مكانكم شهرا بعد شهر وسنة بعد سنة ، حتى يهلك الله عدوكم هؤلاء
الخوارج المطلين عليكم . ثم إنه خطب يوما فقال : إن الزيادة التي زادكم إياها ابن الزبير إنما هي زيادة مخسرة باطلة [ من ] ملحد فاسق منافق ، ولسنا نجيزها ! وكان
مصعب قد زاد الناس في العطاء مائة مائة .
فقال
nindex.php?page=showalam&ids=12644عبد الله بن الجارود : إنها ليست بزيادة
ابن الزبير ، إنما هي زيادة أمير المؤمنين
عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه
بشر . فقال له
الحجاج : ما أنت
[ ص: 427 ] والكلام ! لتحسنن حمل رأسك أو لأسلبنك إياه ! فقال : ولم ؟ إني لك لناصح ، وإن هذا القول من ورائي .
فنزل
الحجاج ومكث أشهرا لا يذكر الزيادة ، ثم أعاد القول فيها ، فرد عليه
ابن الجارود مثل رده الأول . فقام
مصقلة بن كرب العبدي أبو رقبة بن مصقلة المحدث عنه ، فقال : إنه ليس للرعية أن ترد على راعيها ، وقد سمعنا ما قال الأمير ، فسمعا وطاعة فيما أحببنا وكرهنا . فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=12644عبد الله بن الجارود : يا
ابن الجرمقانية ! ما أنت وهذا ! ومتى كان مثلك يتكلم وينطق في مثل هذا ؟
وأتى الوجوه
nindex.php?page=showalam&ids=12644عبد الله بن الجارود فصوبوا رأيه وقوله ، وقال
الهذيل بن عمران البرجمي وعبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وغيرهما : نحن معك وأعوانك ، إن هذا الرجل غير كاف حتى ينقصنا هذه الزيادة ، فهلم نبايعك على إخراجه من
العراق ، ثم نكتب إلى
عبد الملك نسأله أن يولي علينا غيره ، فإن أبى خلعناه ، فإنه هائب لنا ما دامت
الخوارج . فبايعه الناس سرا وأعطوه المواثيق على الوفاء ، وأخذ بعضهم على بعضهم العهود .
وبلغ
الحجاج ما هم فيه فأحرز بيت المال واحتاط فيه . فلما تم لهم أمرهم أظهروه ، وذلك في ربيع الآخر سنة ست وسبعين ، وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12644عبد الله بن الجارود عبد القيس على راياتهم ، وخرج الناس معه حتى بقي
الحجاج وليس معه إلا خاصته وأهل بيته ، فخرجوا قبل الظهر ، وقطع
ابن الجارود ومن معه الجسر ، وكانت خزائن
الحجاج والسلاح من ورائه . فأرسل
الحجاج أعين ، صاحب حمام أعين
بالكوفة ، إلى
ابن الجارود يستدعيه إليه ، فقال
ابن الجارود : ومن الأمير ! لا ولا كرامة
لابن أبي رغال ! ولكن ليخرج عنا مذموما مدحورا ، وإلا قاتلناه ! فقال
أعين : فإنه يقول لك : أتطيب نفسا بقتلك وقتل أهل بيتك وعشيرتك ؟ والذي نفسي بيده لئن لم يأتني لأدعن قومك عامة وأهلك خاصة حديثا للغابرين . وكان
الحجاج قد حمل أعين هذه الرسالة . فقال
ابن الجارود : لولا أنك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة ! وأمر فوجئ في عنقه ، وأخرج .
واجتمع الناس
لابن الجارود ، فأقبل بهم زحفا نحو
الحجاج ، وكان رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه ، فلما صاروا إليه نهبوه في فسطاطه ، وأخذوا ما قدروا عليه من متاعه ودوابه ، وجاء أهل
اليمن فأخذوا امرأته ابنة
nindex.php?page=showalam&ids=114النعمان بن بشير ، وجاءت
مضر ، فأخذوا امرأته الأخرى
أم سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو أخي سهيل بن عمرو . فخافه
[ ص: 428 ] السفهاء ، ثم إن القوم انصرفوا عن
الحجاج وتركوه ، فأتاه قوم من
أهل البصرة فصاروا معه خائفين من محاربة الخليفة .
فجعل
الغضبان بن القبعثرى الشيباني يقول
لابن الجارود : تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك ، أما ترى من قد أتاه منكم ؟ ولئن أصبح ليكثرن ناصره ، ولتضعفن منتكم ! فقال : قد قرب المساء ، ولكنا نعاجله بالغداة .
وكان مع
الحجاج عثمان بن قطن ،
وزياد بن عمرو العتكي ، وكان
زياد على شرطة
البصرة ، فقال لهما : ما تريان ؟ أن آخذ لك من القوم أمانا ، وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين ، فقد ارفض أكثر الناس عنك ، ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك . فقال
عثمان بن قطن الحارثي : لكني لا أرى ذلك ، إن أمير المؤمنين قد شركك في أمرك ، وخلطك بنفسه ، واستنصحك وسلطك ، فسرت إلى
ابن الزبير ، وهو أعظم الناس خطرا ، فقتلته ، فولاك الله شرف ذلك وسناه ، وولاك أمير المؤمنين الحجاز ، ثم رفعت فولاك
العراقين ، فحيث جريت إلى المدى ، وأصبت الغرض الأقصى ، تخرج على قعود إلى
الشام ، والله لئن فعلت لا نلت من
عبد الملك مثل الذي أنت فيه من سلطان أبدا ، وليتضعن شأنك ، ولكني أرى أن نمشي بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفرا ، أو نموت كراما . فقال له
الحجاج : الرأي ما رأيت . وحفظ هذا
لعثمان ، وحقدها على
زياد بن عمرو .
وجاء عامل
ابن مسمع إلى
الحجاج فقال : إني قد أخذت لك أمانا من الناس ، فجعل
الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول : والله لا أؤمنهم أبدا حتى يأتوا
بالهذيل وعبد الله بن حكيم . وأرسل إلى
عبيد بن كعب النميري يقول : هلم إلي فامنعني . فقال : قل له : إن أتيتني منعتك . فقال : لا ولا كرامة ! وبعث إلى
محمد بن عمير بن عطارد كذلك ، فأجابه مثل الجواب الأول ، فقال : لا ناقتي في هذا ولا جملي . وأرسل إلى
عبد الله بن حكيم المجاشعي فأجابه كذلك أيضا .
ومر
عباد بن الحصين الحبطي بابن الجارود وابن الهذيل وعبد الله بن حكيم وهم يتناجون ، فقال : أشركونا في نجواكم . فقالوا : هيهات أن يدخل في نجوانا أحد من
[ ص: 429 ] بني الحبط ! فغضب وصار إلى
الحجاج في مائة رجل ، فقال له
الحجاج : ما أبالي من تخلف بعدك .
وسعى
nindex.php?page=showalam&ids=16819قتيبة بن مسلم في قومه في
بني أعصر ؟ وقال : لا والله لا ندع
قيسا يقتل ولا ينهب ماله ، يعني
الحجاج ، وأقبل إلى
الحجاج .
وكان
الحجاج قد يئس من الحياة ، فلما جاءه هؤلاء اطمأن ، ثم جاءه
سبرة بن علي الكلابي ،
وسعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي فسلم ، فأدناه منه ، وأتاه
جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي ، وأرسل إليه
مسمع بن مالك بن مسمع : إن شئت أتيتك ، وإن شئت أقمت وثبطت الناس عنك . فقال : أقم وثبط الناس عني .
فلما اجتمع إلى
الحجاج جمع يمنع بمثلهم ، خرج فعبأ أصحابه ، وتلاحق الناس به ، فلما أصبح إذا حوله نحو ستة آلاف ، وقيل غير ذلك . فقال
ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان : ما الرأي ؟ قال : تركت الرأي أمس حين قال لك الغضبان تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك ، وقد ذهب الرأي وبقي الصبر .
فدعا
ابن الجارود بدرع فلبسها مقلوبة ، فتطير . وحرض
الحجاج أصحابه وقال : لا يهولنكم ما ترون من كثرتهم . وتزاحف القوم وعلى ميمنة
ابن الجارود الهذيل بن عمران ، وعلى ميسرته عبد الله بن زياد بن ظبيان ، وعلى ميمنة
الحجاج nindex.php?page=showalam&ids=16819قتيبة بن مسلم ، ويقال عباد بن الحصين ، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم ، فحمل
ابن الجارود في أصحابه حتى جاز أصحاب
الحجاج ، فعطف
الحجاج عليه ، ثم اقتتلوا ساعة ، وكاد
ابن الجارود يظفر ، فأتاه سهم غرب فأصابه فوقع ميتا . ونادى منادي
الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم ، وأمر أن لا يتبع المنهزمون ، وقال : الاتباع من سوء الغلبة . فانهزم عبيد الله بن زياد بن ظبيان ، وأتى سعيد بن عياذ بن الجلندي الأزدي بعمان ، فقيل لسعيد : إنه رجل فاتك فاحذره ، فلما جاء البطيخ بعث إليه بنصف بطيخة مسمومة وقال : هذا أول شيء جاء من البطيخ ، وقد أكلت نصف بطيخة وبعثت بنصفها ، فأكلها عبيد الله فأحس بالشر ، فقال : أردت أن أقتله فقتلني .
وحمل رأس
ابن الجارود وثمانية عشر رأسا من وجوه أصحابه إلى
المهلب ، فنصبت ليراها
الخوارج وييأسوا من الاختلاف .
وحبس
الحجاج عبيد بن كعب ،
ومحمد بن عمير ; حيث قالا
للحجاج : تأتينا
[ ص: 430 ] لنمنعك . وحبس
الغضبان بن القبعثرى وقال له : أنت القائل تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك ؟ فقال : ما نفعت من قيلتي له ، ولا ضررت من قيلتي فيك . فكتب
عبد الملك إلى
الحجاج بإطلاقه .
وقتل مع
ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري ، فقال
الحجاج : ألا أرى
أنسا يعين علي ! فلما دخل
البصرة أخذ ماله ، فحين دخل عليه
أنس قال : لا مرحبا ولا أهلا بك يا
ابن الخبيثة ! شيخ ضلالة ، جوال في الفتن ، مرة مع
أبي تراب ، ومرة مع
ابن الزبير ، ومرة مع
ابن الجارود ! أما والله لأجردنك جرد القضيب ، ولأعصبنك عصب السلمة ، ولأقلعنك قلع الصمغة ! فقال
أنس : من يعني الأمير ؟ قال إياك أعني ، ، أصم الله صداك ! فرجع
أنس فكتب إلى
عبد الله كتابا يشكو فيه
الحجاج وما صنع به . فكتب
عبد الملك إلى
الحجاج : أما بعد ، يا
ابن أم الحجاج ، فإنك عبد طمت بك الأمور ، فعلوت فيها حتى عدوت طورك ، وجاوزت قدرك ، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب ، لأغمزنك غمزة كبعض غمزات الليوث الثعالب ، ولأخبطنك خبطة تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك ، أما تذكر حال آبائك في الطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم ، ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومياههم ؟ أنسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروة والخلق ؟ وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك جرأة وإقداما ، وأظنك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين في أمره ، فتعلم إنكاره ذلك وإغضاءه عنك ، فإن سوغك ما كان منك مضيت عليه قدما ، فعليك لعنة الله من عند أخفش العينين ، أصك الرجلين ، ممسوح الجاعرتين ! ولولا أن أمير المؤمنين يظن أن الكاتب أكثر في الكتابة عن الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك لأرسل من يسحبك ظهرا لبطن ، حتى يأتي بك
أنسا فيحكم فيك ، فأكرم
أنسا وأهل بيته ، واعرف له حقه وخدمته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تقصرن في شيء من حوائجه ، ولا يبلغن أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدم فيه إليك من
[ ص: 431 ] أمر
أنس وبره وإكرامه ، فيبعث إليك من يضرب ظهرك ، ويهتك سترك ، ويشمت بك عدوك ، والقه في منزله متنصلا إليه ، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك إن شاء الله ، والسلام .
وبعث بالكتاب مع
إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم ، فأتى
إسماعيل أنسا بكتاب أمير المؤمنين إليه فقرأه ، وأتى
الحجاج بالكتاب إليه ، فجعل يقرؤه ووجهه يتغير ويتغبر ، وجبينه يرشح عرقا ويقول : يغفر الله لأمير المؤمنين .
ثم اجتمع
بأنس ، فرحب به
الحجاج واعتذر إليه وقال : أردت أن يعلم
أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان ، وإذ بلغت منك ما بلغت - أني إليهم بالعقوبة أسرع .
فقال
أنس : ما شكوت حتى بلغ مني الجهد ، وحتى زعمت أنا الأشرار وقد سمانا الله الأنصار ، وزعمت أنا أهل النفاق ونحن الذين تبوءوا الدار والإيمان ، وسيحكم الله بيننا وبينك ، فهو أقدر على التغيير ، لا يشبه الحق عنده الباطل ، ولا الصدق الكذب ، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة وسلما إلى مساءة
أهل العراق باستحلال ما حرم الله عليك مني ، ولم يكن لي عليك قوة ، فوكلتك إلى الله ثم إلى أمير المؤمنين ، فحفظ من حقي ما لم تحفظ ، فوالله لو أن
النصارى على كفرهم رأوا رجلا خدم
عيسى بن مريم يوما واحدا ، لعرفوا من حقه ما لم تعرف أنت من حقي ، وقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين . وبعد فإن رأينا خيرا حمدنا الله عليه وأثنينا ، وإن رأينا غير ذلك صبرنا ، والله المستعان . ورد عليه
الحجاج ما كان أخذ منه .