ذكر
قدوم شبيب الكوفة أيضا وانهزامه عنها
ثم سار
شبيب من
سورا فنزل
حمام أعين ، فدعا
الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي ، فوجهه في ناس من الشرط لم يشهدوا يوم
عتاب وغيرهم ، فخرج في نحو ألف ، فنزل
زرارة ، فبلغ ذلك
شبيبا ، فعجل إلى
الحارث بن معاوية ، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه ، وجاء المنهزمون فدخلوا
الكوفة ، وجاء
شبيب فعسكر بناحية
الكوفة وأقام ثلاثا ، فلم يكن في اليوم الأول غير قتل
الحارث .
فلما كان اليوم الثاني أخرج
الحجاج مواليه ، فأخذوا بأفواه السكك ، وجاء
شبيب فنزل
السبخة وابتنى بها مسجدا ، فلما كان اليوم الثالث أخرج
الحجاج أبا الورد مولاه ،
[ ص: 460 ] عليه تجفاف ، ومعه غلمان له وقالوا : هذا
الحجاج ، فحمل عليه
شبيب فقتله ، وقال : إن كان هذا
الحجاج فقد أرحتكم منه .
ثم أخرج
الحجاج غلامه
طهمان في مثل تلك العدة والحالة ، فقتله
شبيب وقال : إن كان هذا
الحجاج فقد أرحتكم منه .
ثم إن
الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر ، فطلب بغلا يركبه إلى
السبخة ، فأتي ببغل ، فركبه ومعه
أهل الشام ، فخرج ، فلما رأى
الحجاج شبيبا وأصحابه نزل ، وكان
شبيب في ستمائة فارس ، فأقبل نحو
الحجاج ، وجعل
الحجاج سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك في جماعة الناس ، ودعا
الحجاج بكرسي فقعد عليه ثم نادى : [ يا ]
أهل الشام ، أنتم أهل السمع والطاعة [ والصبر ] واليقين ، فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم ، غضوا الأبصار ، واجثوا على الركب ، واستقبلوهم بأطراف الأسنة . ففعلوا وأشرعوا الرماح ، وكأنهم حرة سوداء ، وأقبل
شبيب في ثلاثة كراديس ، كتيبة معه ، وكتيبة مع
سويد بن سليم ، وكتيبة مع
المحلل بن وائل ، وقال
لسويد : احمل عليهم في خيلك ، فحمل عليهم ، فثبتوا له ووثبوا في وجهه بأطراف الرماح ، فطعنوه حتى انصرف هو وأصحابه .
وصاح
الحجاج : هكذا فافعلوا ، وأمر بكرسيه فقدم ، وأمر
شبيب المحلل فحمل عليهم ففعلوا به كذلك ، فناداهم
الحجاج : هكذا فافعلوا ، وأمر بكرسيه فقدم .
ثم إن
شبيبا حمل عليهم في كتيبته ، فثبتوا له وصنعوا به كذلك ، فقاتلهم طويلا ، ثم إن
أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه . فلما رأى صبرهم نادى : يا
سويد ، احمل عليهم بأصحابك على أهل هذه السكة ، لعلك تزيل أهلها ، وتأتي
الحجاج من ورائه ، ونحمل نحن عليه من أمامه . فحمل
سويد ، فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك فرجع . وكان
الحجاج قد جعل
عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة رجل من
أهل الشام ردءا له ، لئلا يؤتوا من خلفهم ، فجمع
شبيب أصحابه ليحمل بهم ، فقال
الحجاج : اصبروا لهذه الشدة الواحدة ، ثم هو الفتح . فجثوا على الركب .
وحمل عليهم
شبيب بجميع أصحابه ، فوثبوا في وجهه ، وما زالوا يطاعنونه ويضاربونه قدما ، ويدفعونه وأصحابه حتى أجازوهم مكانهم ، وأمر
شبيب أصحابه بالنزول ، فنزل نصفهم ، وجاء
الحجاج حتى انتهى إلى مسجد
شبيب ثم قال : يا
أهل الشام ، هذا أول الفتح ، وصعد المسجد ومعه جماعة معهم النبل ليرموهم إن دنوا منه ، فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال رآه الناس حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه .
[ ص: 461 ] ثم إن
خالد بن عتاب قال
للحجاج : ائذن لي في قتالهم فإني موتور ، فأذن له ، فخرج ومعه جماعة من
أهل الكوفة ، وقصد عسكرهم من ورائهم ، فقتل
مصادا أخا
شبيب ، وقتل امرأته
غزالة ، وحرق في عسكره . وأتى الخبر
الحجاج وشبيبا ، فكبر
الحجاج وأصحابه ، وأما
شبيب فركب هو وأصحابه ، وقال
الحجاج لأهل الشام : احملوا عليهم ، فإنهم قد أتاهم ما أرعبهم . فشدوا عليهم فهزموهم ، وتخلف
شبيب في حامية الناس . فبعث
الحجاج إلى خيله : أن دعوه ، فتركوه ورجعوا ، ودخل
الحجاج الكوفة فصعد المنبر ثم قال : والله ما قوتل
شبيب قبلها ، ولى والله هاربا وترك امرأته يكسر في استها القصب . ثم دعا
حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في ثلاثة آلاف فارس من
أهل الشام في أثر
شبيب وقال له : احذر بياته ، وحيث لقيته فانزل له ، فإن الله - تعالى - قد فل حده ، وقصم نابه .
فخرج في أثره حتى نزل
الأنبار ، وكان
الحجاج قد نادى عند انهزامهم : من جاءنا منكم فهو آمن . فتفرق عن
شبيب ناس كثير من أصحابه . فلما نزل
حبيب الأنبار أتاهم
شبيب ، فلما دنا منهم نزل فصلى المغرب ، وكان
حبيب قد جعل أصحابه أرباعا ، وقال لكل ربع منهم : ليمنع كل ربع منكم جانبه ، فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر ، فإن
الخوارج قريب منكم ، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون .
فأتاهم
شبيب وهم على تعبية ، فحمل على ربع فقاتلهم طويلا ، فما زالت قدم إنسان عن موضعها ، ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر فكانوا كذلك ، ثم أتى ربعا آخر فكانوا كذلك ، ثم الربع الرابع ، فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل ، ثم نازلهم راجلا ، فسقطت منهم الأيدي ، وكثرت القتلى ، وفقئت الأعين ، وقتل من أصحاب
شبيب نحو ثلاثين رجلا ، ومن
أهل الشام نحو مائة ، واستولى التعب والإعياء على الطائفتين ، ( حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئا ) ، وحتى إن الرجل ليقاتل جالسا ، فما يستطيع أن يقوم من التعب .
فلما يئس
شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم . ثم قطع
دجلة وأخذ في أرض
جوخى ، ثم قطع
دجلة مرة أخرى عند
واسط ، ثم أخذ نحو
الأهواز ، ثم إلى
فارس ، ثم إلى
كرمان ليستريح هو ومن معه .
[ ص: 462 ] وقيل في هزيمته غير ذلك ، وهو أن
الحجاج كان قد بعث إلى
شبيب أميرا فقتله ، ثم أميرا فقتله ، أحدهما أعين صاحب
حمام أعين ، ثم جاء
شبيب حتى دخل
الكوفة ومعه زوجته
غزالة ، وكانت نذرت أن تصلي في
جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران ، واتخذ في عسكره أخصاصا . فجمع
الحجاج ليلا بعد أن لقي من
شبيب الناس ما لقوا ، فاستشارهم في أمر
شبيب ، فأطرقوا ، وفصل
قتيبة من الصف فقال : أتأذن لي في الكلام ؟ قال : نعم . قال : إن الأمير ما راقب الله ولا أمير المؤمنين ولا نصح الرعية . قال : وكيف ذلك ؟ قال : لأنك تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعا ، فينهزمون ويستحيي أن ينهزم فيقتل . قال : فما الرأي ؟ قال : الرأي أن تخرج إليه فتحاكمه . قال : فانظر لي معسكرا .
فخرج الناس يلعنون
عنبسة بن سعيد ; لأنه هو الذي كلم
الحجاج فيه حتى جعله من صحابته ، وصلى
الحجاج من الغد الصبح ، واجتمع الناس ، وأقبل
قتيبة وقد رأى معسكرا حسنا ، فدخل إلى
الحجاج ، ثم خرج ومعه لواء منشور ، وخرج
الحجاج يتبعه حتى خرج إلى
السبخة وبها
شبيب ، وذلك يوم الأربعاء ، فتواقفوا ، وقيل
للحجاج : لا تعرفه مكانك ، فأخفى مكانه ، وشبه له
أبا الورد مولاه ، فنظر إليه
شبيب ، فحمل عليه فضربه بعمود فقتله ، وحمل
شبيب على
خالد بن عتاب ومن معه وهو على ميسرة
الحجاج ، فبلغ بهم
الرحبة ، وحمل على
مطر بن ناجية وهو على ميمنة
الحجاج فكشفه ، فنزل عند ذلك
الحجاج ، ونزل أصحابه ، وجلس على
عباءة ومعه
عنبسة بن سعيد ، فإنهم على ذلك إذ تناول
مصقلة بن مهلهل الضبي لجام
شبيب وقال : ما تقول في
صالح بن مسرح ، وبم تشهد عليه ؟ قال : أعلى هذه الحال ؟ قال : نعم . قال : فبرئ من
صالح . فقال له مصقلة : برئ الله منك ، وفارقه إلا أربعين فارسا ، فقال
الحجاج : قد اختلفوا ، وأرسل إلى
خالد بن عتاب ، فأتى بهم في عسكرهم فقاتلهم فقتلت
غزالة ، ومر برأسها إلى
الحجاج مع فارس ، فعرفه
شبيب ، فأمر رجلا فحمل على الفارس فقتله وجاء بالرأس ، فأمر به فغسل ثم دفنه .
ومضى القوم على حاميتهم ، ورجع
خالد فأخبر
الحجاج بانصرافهم ، فأمره باتباعهم ، فاتبعهم يحمل عليهم ، فرجع إليه ثمانية نفر فقاتلوه حتى بلغوا به
الرحبة ، وأتي
شبيب بخوط بن عمير السدوسي فقال : يا خوط لا حكم إلا لله . فقال : ( إن
خوطا من أصحابكم ، ولكنه كان يخاف . فأطلقه ، وأتي
بعمير بن القعقاع فقال : يا
عمير ،
[ ص: 463 ] لا حكم إلا لله . فقال : في ) سبيل الله شبابي . فردد عليه
شبيب : لا حكم إلا لله . فلم يفقه ما يريد ، فقتله .
وقتل
مصاد أخو شبيب ، وجعل
شبيب ينتظر الثمانية الذين اتبعوا
خالدا ، فأبطئوا ولم يقدم أصحاب
الحجاج على
شبيب هيبة له ، وأتى إلى
شبيب أصحابه الثمانية ، فساروا واتبعهم
خالد وقد دخلوا إلى دير بناحية
المدائن ، فحصرهم فيه ، فخرجوا عليه فهزموه نحو فرسخين ، فألقوا أنفسهم في
دجلة منهزمين ، وألقى
خالد نفسه فيها بفرسه ولواؤه بيده ، فقال
شبيب : قاتله الله ، هذا أسد الناس ! فقيل : هو
خالد بن عتاب . فقال : معرق [ له ] في الشجاعة ، ولو عرفته لأقحمت خلفه ولو دخل النار . ثم سار إلى
كرمان ، على ما تقدم ذكره ، وكتب
الحجاج إلى
عبد الملك يستمده ، ويعرفه عجز
أهل الكوفة عن قتال
شبيب ، فسير
سفيان بن الأبرد في جيش إليه .