ذكر
وقعة دير الجماجم
وكانت وقعة
دير الجماجم في شعبان من هذه السنة ، وقيل : كانت سنة ثلاث وثمانين .
وكان سببها أن
الحجاج سار من
البصره إلى
الكوفة لقتال
عبد الرحمن بن محمد فنزل
دير قرة ، وخرج
عبد الرحمن من
الكوفة ، فنزل
دير الجماجم . فقال
الحجاج : إن
[ ص: 495 ] عبد الرحمن نزل
دير الجماجم ، ونزلت
دير القرة ، أما تزجر الطير ؟ واجتمع إلى
عبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة والقراء وأهل الثغور والمسالح
بدير الجماجم ، فاجتمعوا على حرب
الحجاج لبغضه ، وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ، ومعهم مثلهم ، وجاءت
الحجاج أيضا أمداد من
الشام قبل نزوله
بدير قرة ، وخندق كل منهما على نفسه ، فكان الناس يقتتلون كل يوم ، ولا يزال أحدهما يدني خندقه من الآخر .
ثم إن
عبد الملك وأهل الشام قالوا : إن كان يرضى
أهل العراق بنزع
الحجاج عنهم نزعناه ، فإن عزله أيسر من حربهم ، ونحقن بذلك الدماء . فبعث
عبد الملك ابنه
عبد الله وأخاه
محمد بن مروان ، وكان
محمد بأرض
الموصل ، إلى
الحجاج في جند كثيف ، وأمرهما أن يعرضا على
أهل العراق عزل
الحجاج ، وأن يجريا عليهم أعطياتهم كما تجرى على
أهل الشام ، وأن ينزل
عبد الرحمن بن محمد أي بلد شاء من بلد
العراق ، فإذا نزله كان واليا عليه ما دام حيا وعبد الملك خليفة ، فإن أجاب
أهل العراق إلى ذلك عزلا
الحجاج عنها ، وصار
محمد بن مروان أمير
العراق ، وإن أبى
أهل العراق قبول ذلك ،
فالحجاج أمير الجماعة ، ووالي القتال ،
ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته .
فلم يأت
الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أوجع لقلبه من ذلك ، مخافة أن يقبل
أهل العراق عزله ، فيعزل عنهم ، فكتب إلى
عبد الملك : والله لو أعطيت
أهل العراق نزعي لم يلبثوا إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك ، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك ، ألم تر ويبلغك وثوب
أهل العراق مع
الأشتر على
ابن عفان ، وسؤالهم نزع
nindex.php?page=showalam&ids=74سعيد بن العاص ، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إلى
عثمان فقتلوه ، وإن الحديد بالحديد يفلح .
فأبى
عبد الملك إلا عرض عزله على
أهل العراق . فلما اجتمع
عبد الله ومحمد مع
الحجاج خرج
عبد الله بن عبد الملك وقال : يا
أهل العراق ، أنا ابن أمير المؤمنين ، وهو يعطيكم كذا وكذا . وخرج
محمد بن مروان وقال : أنا رسول أمير المؤمنين ، وهو يعرض عليكم كذا وكذا ، فذكر هذه الخصال . فقالوا : نرجع العشية . فرجعوا واجتمع
أهل العراق عند
nindex.php?page=showalam&ids=12582ابن الأشعث ، فقال لهم : قد أعطيتم أمرا ، انتهازكم اليوم إياه فرصة ، وإنكم اليوم على النصف ، فإن كانوا اعتدوا عليكم بيوم الزاوية ، فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر ،
[ ص: 496 ] فاقبلوا ما عرضوا عليكم ، وأنتم أعزاء أقوياء لقوم هم لكم هائبون ، وأنتم لهم منتقصون ، فوالله لا زلتم عليهم جرآء ، وعندهم أعزاء ، أبدا ما بقيتم ، إن أنتم قبلتم .
فوثب الناس من كل جانب فقالوا : إن الله قد أهلكهم ، فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة ، ونحن ذوو العدد الكثير ، والسعر الرخيص ، والمادة القريبة ، لا والله لا نقبل ! وأعادوا خلعه ثانية .
وكان أول من قام بخلعه
بدير الجماجم عبد الله بن ذؤاب السلمي ،
وعمير بن تيجان ، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه
بفارس .
فقال
عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان للحجاج : شأنك بعسكرك وجندك ، واعمل برأيك ، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع . فقال : قد قلت : إنه لا يراد بهذا الأمر غيركم . فكانا يسلمان عليه بالإمرة ، ويسلم عليهما بالإمرة . فلما اجتمع
أهل العراق بالجماجم على خلع
عبد الملك قال
عبد الرحمن : ألا إن
بني مروان يعيرون بالزرقاء ، والله ما لهم نسب أصح منه ، إلا أن
بني [ أبي ] العاص أعلاج من
أهل صفورية ، فإن يكن هذا الأمر ( في
قريش فعني فقئت ) بيضة
قريش ، وإن يك في العرب فأنا
nindex.php?page=showalam&ids=12582ابن الأشعث ، ومد بها صوته يسمع الناس ، وبرزوا للقتال .
فجعل
الحجاج على ميمنته
عبد الرحمن بن سليم الكلبي ، وعلى ميسرته
عمارة بن تميم اللخمي ، وعلى خيله
سفيان بن الأبرد الكلبي ، وعلى رجاله
عبد الله بن خبيب الحكمي ، وجعل
عبد الرحمن على ميمنته
الحجاج بن حارثة الخثعمي ، وعلى ميسرته
الأبرد بن قرة التميمي ، وعلى خيله
عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي ، وعلى رجاله
nindex.php?page=showalam&ids=16964محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وعلى مجنبته
عبد الله بن رزام الحارثي ، وجعل على القراء
جبلة بن زحر بن قيس الجعفي ، وفيهم
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577وعامر الشعبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11827وأبو البختري الطائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16330وعبد الرحمن بن أبي ليلى .
ثم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون ،
وأهل العراق تأتيهم موادهم من
الكوفة وسوادها ، وهم في خصب ،
وأهل الشام في ضنك شديد ، قد غلت عليهم الأسعار ، وفقد عندهم اللحم كأنهم في حصار ، وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون . فلما كان اليوم الذي قتل فيه
جبلة بن زحر بن قيس ، وكانت كتيبته تدعى القراء تحمل عليهم فلا
[ ص: 497 ] يبرحون ، وكانوا قد عرفوا بذلك ، وكان فيهم
كميل بن زياد ، وكان رجلا ركينا . فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون ، وعبأ
الحجاج صفوفه ، وعبأ
عبد الرحمن أصحابه ، وعبأ
الحجاج لكتيبة القراء ثلاث كتائب ، وبعث عليها
nindex.php?page=showalam&ids=13983الجراح بن عبد الله الحكمي ، فأقبلوا نحوهم ، فحملوا على القراء ثلاث حملات ، كل كتيبة تحمل حملة ، فلم يبرحوا وصبروا .