[ ص: 228 ] ذكر مسير
بختنصر إلى
بني إسرائيل قد اختلف العلماء في
الوقت الذي أرسل فيه بختنصر على بني إسرائيل ، فقيل : كان في عهد
إرميا النبي ،
ودانيال ،
وحنانيا ،
وعزاريا ،
وميشائيل . وقيل : إنما أرسله الله على
بني إسرائيل لما قتلوا
يحيى بن زكريا . والأول أكثر .
وكان ابتداء أمر
بختنصر ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير قال : كان رجل من
بني إسرائيل يقرأ الكتب ، فلما بلغ إلى قوله تعالى :
بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد . قال : أي رب ، أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك
بني إسرائيل على يده ، فأري في المنام مسكينا يقال له
بختنصر ببابل فسار على سبيل التجارة إلى
بابل ، وجعل يدعو المساكين ويسأل عنهم حتى دلوه على
بختنصر ، فأرسل من يحضره ، فرآه صعلوكا مريضا فقام عليه في مرضه يعالجه حتى برأ ، فلما برأ أعطاه نفقة وعزم على السفر ، فقال له
بختنصر وهو يبكي : فعلت معي ما فعلت ولا أقدر على مجازاتك ! قال
[ ص: 229 ] الإسرائيلي : بلى تقدر عليه ؛ تكتب لي كتابا إن ملكت أطلقتني . فقال : أتستهزئ بي ؟ فقال : إنما هذا أمر لا محالة كائن .
ثم إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال
الشام ، فأرسل إنسانا يثق به ليتعرف له أخبار وحال من فيه ، فسار إليه ومعه
بختنصر فقير لم يخرج إلا للخدمة . فلما قدم
الشام رأى أكبر بلاد الله خيلا ، ورجالا ، وسلاحا ، ففت ذلك في ذرعه ، فلم يسأل عن شيء ، وجعل
بختنصر يجلس مجالس
أهل الشام فيقول لهم : ما منعكم أن تغزوا
بابل ، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء ! فكلهم يقول له : لا نحسن القتال ، ولا نراه فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل ، وأرسل
بختنصر إلى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جلية الحال ، فأحضره ، فأخبره بما كان جميعه ، ثم إن الملك أراد أن يبعث عسكرا إلى
الشام أربعة آلاف راكب جريدة ، واستشار فيمن يكون عليهم ، فأشاروا ببعض أصحابه ، فقال : لا بل
بختنصر ، فجعله عليهم . فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين .
ثم إن لهراسب استعمله إصبهبذا على ما بين
الأهواز إلى
أرض الروم من غربي
دجلة ، وكان السبب في مسيره إلى
بني إسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار إلى
الشام فصالحه
أهل دمشق وبيت المقدس ، فعاد عنهم وأخذ رهائنهم ، فلما عاد من
القدس إلى
طبرية وثب
بنو إسرائيل على ملكهم الذي صالح
بختنصر فقتلوه ، وقالوا : داهنت
أهل بابل وخذلتنا ، فلما سمع
بختنصر بذلك قتل الرهائن الذين معه وعاد إلى
القدس فأخربه .
وقيل : إن الذي استعمله إنما كان الملك
بهمن بن بشتاسب بن لهراسب ، وكان
بختنصر قد خدم جده ، وأباه ، وخدمه ، وعمر عمرا طويلا . فأرسل بهمن رسلا إلى ملك
بني إسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيلي ، فغضب بهمن من ذلك واستعمل
[ ص: 230 ] بختنصر على أقاليم
بابل وسيره في الجنود الكثيرة ، فعمل بهم ما نذكره .
هذه الأسباب الظاهرة ، وإنما السبب الكلي الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من
بني إسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أوامره ، وكانت سنة الله تعالى في
بني إسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكا أرسل معه نبيا يرشده ويهديه إلى أحكام التوراة . فلما كان قبل مسير
بختنصر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي ، وكان الملك فيهم
يقونيا بن يوياقيم ، فبعث الله إليه
إرميا ، قيل : هو
الخضر - عليه السلام - فأقام فيهم يدعوهم إلى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب ، فلم يرعووا ، فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريهم ويخرب مدينتهم ، ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة ، فلم يراجعوها ، فأرسل الله إليه : لأقيضن لهم فتنة تذر الحليم حيران فيها ويضل فيها رأي ذي الرأي ، وحكمة الحكيم ، ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتبا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة ، يتبعه عدد مثل سواد الليل ، وعساكر مثل قطع السحاب ، يهلك
بني إسرائيل وينتقم منهم ويخرب
بيت المقدس .
فلما سمع
إرميا ذلك صاح وبكى وشق ثيابه . وجعل الرماد على رأسه وتضرع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيامه .
فأوحى الله إليه : وعزتي لا أهلك
بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك ذلك . ففرح
إرميا ، وقال : لا والذي بعث
موسى وأنبياءه بالحق لا آمر بهلاك
بني إسرائيل أبدا .
وأتى ملك
بني إسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه ، فاستبشر وفرح ، ثم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر ، وذلك حين اقترب هلاكهم ،
[ ص: 231 ] فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكرون . فقال لهم ملكهم : يا
بني إسرائيل ، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله ! فلم ينتهوا ، فألقى الله في قلب
بختنصر أن يسير إلى
بني إسرائيل ببيت المقدس ، فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء .
وبلغ ملك
بني إسرائيل الخبر ، فاستدعى
إرميا النبي ، فلما حضر عنده قال له : يا
إرميا ، أين ما زعمت أن ربك أوحى إليك أن لا يهلك
بيت المقدس حتى يكون الأمر منك ؟ فقال
إرميا : إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق .
فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم ، وأراد الله إهلاكهم أرسل الله ملكا في صورة آدمي إلى
إرميا ، وقال له : استفته ، فأتاه ، وقال له : يا
إرميا ، أنا رجل من
بني إسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي ، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت لهم حسنا ، وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا سخطا لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم . فقال له : أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله . فانصرف عنه الملك ، ثم عاد إليه بعد أيام في تلك الصورة ، فقال له
إرميا : أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد ؟ فقال والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى ذوي رحمه إلا وقد أتيتها إليهم ، وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة . فقال : ارجع إلى أهلك ، وأحسن إليهم . فقام الملك من عنده فلبث أياما ، ونزل
بختنصر على
بيت المقدس بأكثر من الجراد ، ففزع منهم
بنو إسرائيل ، وقال ملكهم
لإرميا : أين ما وعدك ربك ؟ فقال : إني بربي واثق .
ثم إن الملك الذي أرسله الله يستفتي
إرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار
بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له : يا نبي الله ، كل شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأن ذلك كان فيه سخطي ، وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله تعالى ، فلو كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتد عليه غضبي ، وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا . فقال
إرميا : يا ملك السماوات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم . فلما خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في
بيت المقدس ، والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها .
فلما رأى ذلك
إرميا صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال : يا ملك
[ ص: 232 ] السماوات والأرض ، يا أرحم الراحمين ! أين ميعادك ، أيا رب ، الذي وعدتني به ؟ فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت رسولنا ، فاستيقن أنها فتياه وأن السائل كان من عند الله ، وخرج
إرميا حتى خالط الوحش .
ودخل
بختنصر وجنوده
بيت المقدس ، فوطئ
الشام وقتل
بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرب
بيت المقدس وأمر جنوده ، فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملئوه ، ثم انصرف راجعا إلى
بابل وأخذ معه سبايا
بني إسرائيل ، وأمرهم فجمعوا من كان في
بيت المقدس كلهم ، فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبي فقسمهم على الملوك والقواد الذين كانوا معه ، وكان من أولئك الغلمان
دانيال النبي ،
وحنانيا ،
وعزاريا ،
وميشائيل ، وقسم
بني إسرائيل ثلاث فرق ، فقتل ثلثا ، وأقر
بالشام ثلثا ، وسبى ثلثا ، ثم عمر الله بعد ذلك
إرميا ، فهو الذي رئي بفلوات الأرض والبلدان .
ثم إن
بختنصر عاد إلى
بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم . ثم رأى رؤيا ، فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئا أنساه ما رأى ، فدعا
دانيال ،
وحنانيا ،
وعزاريا ،
وميشائيل ، وقال : أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها . ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم ! فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إياها ، فأعلمهم الذي سألهم عنه ، فجاءوا إلى
بختنصر فقالوا رأيت تمثالا . قال : صدقتم . قالوا : قدماه ، وساقاه من فخار ، وركبتاه وفخذاه من نحاس ، وبطنه من فضة ، وصدره من ذهب ، ورأسه وعنقه من حديد ، فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقته ، وهي التي أنستك الرؤيا ! قال : صدقتم ، فما تأويلها ؟ قالوا : أريت ملك الملوك ، وبعضهم كان ألين ملكا من بعض ، وبعضهم كان أحسن ملكا من بعض ، وبعضهم أشد ، وكان أول الملك الفخار ، وهو أضعفه وألينه ، ثم كان فوقه النحاس ، وهو أفضل منه وأشد ، ثم كان فوق النحاس الفضة ، وهي أفضل من ذلك وأحسن ، ثم كان فوقها الذهب ، وهو أحسن من الفضة وأفضل ، ثم كان الحديد ، وهو ملكك ، فهو أشد الملوك وأعز ، وكانت الصخرة التي رأيت قد أرسل الله من السماء فدقت ذلك جميعه نبيا يبعثه الله من السماء ويصير الأمر إليه .
فلما عبر
دانيال ومن معه رؤيا
بختنصر قربهم وأدناهم واستشارهم في أمره ،
[ ص: 233 ] فحسدهم أصحابه ، وسعوا بهم إليه ، وقالوا عنهم ما أوحشه منهم فأمر ، فحفر لهم أخدود ، وألقاهم فيه ، وهم ستة رجال ، وألقى معهم سبعا ضاريا ليأكلهم ، ثم قال أصحاب
بختنصر : انطلقوا فلنأكل ولنشرب ، فذهبوا فأكلوا وشربوا ، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدا ، ووجدوا معهم رجلا سابعا ، فخرج إليهم السابع ، وكان ملكا من الملائكة ، فلطم
بختنصر لطمة فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد ، وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الإنسان ، ثم رده الله إلى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه ، فلما عاد إلى ملكه كان
دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه ، فعاد الفرس وسعوا بهم إلى
بختنصر ، وقالوا له في سعايتهم : إن
دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول ، وكان ذلك عندهم عارا ، فصنع لهم
بختنصر طعاما وأحضره عنده وقال للبواب : انظر أول من خرج ليبول فاقتله ، وإن قال لك : أنا
بختنصر ، فقل له : كذبت ،
بختنصر أمرني بقتلك واقتله .
فحبس الله عن
دانيال البول ، وكان أول من قام من الجمع
بختنصر فقام مدلا أنه الملك ، وكان ذلك ليلا ، فلما رآه البواب شد عليه ليقتله ، فقال له : أنا
بختنصر ! فقال : كذبت ،
بختنصر أمرني بقتلك ، وقتله .
وقيل في سبب قتله : إن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت إلى رأسه ، فكان لا يقر ولا يسكن حتى يدق رأسه ، فلما حضره الموت قال لأهله : شقوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني ، فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة بأم رأسه ، ليري الله العباد قدرته وسلطانه وضعف
بختنصر ، لما تجبر قتله بأضعف مخلوقاته ، تبارك الذي بيده ملكوت كل شيء يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
وأما
دانيال فإنه أقام
بأرض بابل ، وانتقل عنها ، ومات ودفن
بالسوس من أعمال
خوزستان .
[ ص: 234 ] ولما أراد الله تعالى أن يرد
بني إسرائيل إلى
بيت المقدس كان
بختنصر قد مات ، فإنه عاش بعد تخريب
بيت المقدس أربعين سنة ، في قول بعض أهل العلم ، وملك بعده ابن له يقال له
أولمردج ، فلما ملك تخلط في أمره ، فعزله ملك الفرس حينئذ ، وهو مختلف فيه على ما ذكرناه ، واستعمل بعده
داريوش على
بابل ،
والشام ، وبقي ثلاثين سنة ، ثم عزله واستعمل مكانه
أخشويرش ، فبقي أربع عشرة سنة ، ثم ملك ابنه
كيرش العلمي ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان قد تعلم التوراة ودان باليهودية ، وفهم عن
دانيال ومن معه مثل
حنانيا ،
وعزاريا ، وغيرهما ، فسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى
بيت المقدس ، فقال : لو كان بقي منكم ألف نبي ما فارقتكم ، وولى
دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره ، وأمره أن يقسم ما غنمه
بختنصر من
بني إسرائيل عليهم ، وأمره بعمارة
بيت المقدس ، فعمر في أيامه ، وعاد إليه
بنو إسرائيل .
وهذه المدة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب
بيت المقدس منسوبة إلى
بختنصر ، وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة .
وقيل : إن الذي أمر بعود
بني إسرائيل إلى
الشام بشتاسب بن لهراسب ، وكان قد
[ ص: 235 ] بلغه خراب بلاد
الشام ، وأنها لم يبق منها من
بني إسرائيل أحد فنادى في أرض
بابل : من شاء من
بني إسرائيل أن يرجع إلى
الشام فليرجع . وملك عليهم رجلا من
آل داود وأمره أن يعمر
بيت المقدس ، فرجعوا وعمروه .
وكان
إرميا بن خلقيا من سبط
هارون بن عمران ، فلما وطئ
بختنصر الشام وخرب
بيت المقدس وقتل
بني إسرائيل وسباهم ، فارق البلاد واختلط بالوحش ، فلما عاد
بختنصر إلى
بابل أقبل
إرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلة تين فرأى
بيت المقدس خرابا ، فقال :
أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم أمات حماره ، وأعمى عنه العيون ، فلما انعمر
بيت المقدس أحيا الله من
إرميا عينيه ، ثم أحيا جسده ، وهو ينظر إليه ، وقيل له :
كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم . قيل :
بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه - ويتغير
وانظر إلى حمارك فنظر إلى عظام حماره وهي تجتمع بعضها إلى بعض ، ثم كسي لحما ، ثم قام حيا بإذن الله ، ونظر إلى المدينة وهي تبنى ، وقد كثر فيها
بنو إسرائيل وتراجعوا إليها من البلاد ، وكان عهدهم خرابا ، وأهلها ما بين قتيل وأسير ، فلما رآها عامرة
قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .
وقيل :
إن الذي أماته الله مائة عام ثم أحياه كان عزيرا ، فلما عاش قصد منزله من
بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوزا عمياء زمنة كانت جارية له ، ولها من العمر مائة وعشرون سنة ، فقال لها : هذا منزل
عزير ؟ قالت : نعم ، وبكت وقالت : ما أرى أحدا يذكر
عزيرا غيرك ! فقال : أنا
عزير . فقالت : إن
عزيرا كان مجاب الدعوة ، فادع الله لي بالعافية ، فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت ، فلما رأته عرفته . وكان
لعزير ولد وله من العمر مائة وثماني عشرة سنة ، وله أولاد شيوخ ، فذهبت
[ ص: 236 ] إليهم الجارية وأخبرتهم به ، فجاءوا ، فلما رأوه عرفه ابنه
بشامة كانت في ظهره .
وقيل : إن
عزيرا كان مع
بني إسرائيل بالعراق ، فعاد إلى
بيت المقدس فجدد
لبني إسرائيل التوراة لأنهم عادوا إلى
بيت المقدس ، ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت ، وكان
عزير قد أخذ مع السبي ، فلما عاد
عزير إلى
بيت المقدس مع
بني إسرائيل جعل يبكي ليلا نهارا وانفرد عن الناس ، فبينما هو كذلك في حزنه إذ أقبل إليه رجل ، وهو جالس ، فقال : يا
عزير ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لأن كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فعدم . قال : فتريد أن يرده الله عليكم ؟ قال : نعم . قال : فارجع ، وصم ، وتطهر ، والميعاد بيننا غدا هذا المكان . ففعل
عزير ذلك وأتى المكان فانتظره ، وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء ، وكان ملكا بعثه الله في صورة رجل ، فسقاه من ذلك الإناء ، فتمثلت التوراة في صدره ، فرجع إلى
بني إسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها ، فأحبوه حبا شديدا لم يحبوا شيئا قط مثله ، وأصلح أمرهم ، وأقام
عزير بينهم ، ثم قبضه الله إليه على ذلك ، وحدثت فيهم الأحداث ، حتى قال بعضهم :
عزير ابن الله . ولم يزل
بنو إسرائيل ببيت المقدس ، وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف ، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة .
وقد اختلف العلماء في أمر
بختنصر ، وعمارة
بيت المقدس اختلافا كثيرا تركنا ذكره اختصارا .