ذكر
بعض سيرته
كان
يزيد من فتيانهم ، فقال يوما وقد طرب وعنده
حبابة وسلامة القس : دعوني أطير . قالت
حبابة : على من تدع الأمة ؟ قال : عليك ، قيل وغنته يوما :
وبين التراقي واللهاة حرارة ما تطمئن وما تسوغ فتبردا
فأهوى ليطير ، فقالت : يا أمير المؤمنين إن لنا فيك حاجة . فقال : والله لأطيرن ! فقالت : على من تخلف الأمة والملك ؟ قال : عليك والله ! وقبل يدها ، فخرج بعض خدمه وهو يقول : سخنت عينك فما أسخفك !
وخرجت معه إلى ناحية
الأردن يتنزهان ، فرماها بحبة عنب ، فدخلت حلقها ، فشرقت ومرضت وماتت ، فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها ، حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي ، فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها ، وعاد إلى قصره كئيبا حزينا ، وسمع جارية له تتمثل بعدها :
كفى حزنا بالهائم الصب أن يرى منازل من يهوى معطلة قفرا
فبكى ، وبقي
يزيد بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس ، أشار عليه
مسلمة بذلك ، وخاف أن يظهر منه ما يسفهه عندهم .
وكان
يزيد قد حج أيام أخيه
سليمان ، فاشترى
حبابة بأربعة آلاف دينار ، وكان
[ ص: 164 ] اسمها
العالية ، وقال
سليمان : لقد هممت أن أحجر على
يزيد ، فردها
يزيد ، فاشتراها رجل من أهل
مصر ، فلما أفضت الخلافة إلى
يزيد قالت امرأته
سعدة : هل بقي من الدنيا شيء تتمناه ؟ قال : نعم ،
حبابة . فأرسلت فاشترتها ، ثم صيغتها ، وأتت بها
يزيد ، فأجلستها من وراء الستر ، وقالت : يا أمير المؤمنين هل بقي في الدنيا شيء تتمناه ؟ قال : قد أعلمتك . فرفعت الستر وقالت : هذه
حبابة ، وقامت وتركتها عنده ، فحظيت
سعدة عنده وأكرمها .
وسعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان . ولما مات
يزيد لم يعلم بموته حتى ناحت
سلامة فقالت :
لا تلمنا إن خشعنا أو هممنا بخشوع قد لعمري بت ليلي كأخي الداء الوجيع
ثم بات الهم مني دون من لي بضجيع للذي حل بنا اليوم من الأمر الفظيع
كلما أبصرت ربعا خاليا فاضت دموعي قد خلا من سيد كان لنا غير مضيع
ثم نادت : وا أمير المؤمنيناه ! فعلموا بموته . والشعر لبعض
الأنصار .
وأخبار
يزيد مع
سلامة وحبابة كثيرة ، ليس هذا موضع ذكرها .
وإنما قيل
لسلامة [
سلامة ] القس ، لأن
عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار أحد
بني جشم بن معاوية بن بكير كان فقيها عابدا مجتهدا في العبادة ، وكان يسمى
القس لعبادته ، مر يوما بمنزل مولاها ، فسمع غناءها ، فوقف يسمعه ، فرآه مولاها ، فقال له : هل لك أن تنظر وتسمع ؟ فأبى ، فقال : أنا أقعدها بمكان لا تراها ، وتسمع غناءها ، فدخل معه فغنته ، فأعجبه غناؤها ، ثم أخرجها مولاها إليه ، فشغف بها وأحبها ، وأحبته هي أيضا ، وكان شابا جميلا . فقالت له يوما على خلوة : أنا والله أحبك ! قال : وأنا والله أحبك ! قالت :
[ ص: 165 ] وأحب أن أقبلك ! قال : وأنا والله ! قالت : وأحب أن أضع بطني على بطنك ! قال : وأنا والله ! قالت : فما يمنعك ؟ قال : قول الله تعالى :
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وأنا أكره أن تؤول خلتنا إلى عداوة ، ثم قام ، وانصرف عنها ، وعاد إلى عبادته ، وله فيها أشعار ، منها :
ألم ترها لا يبعد الله دارها إذا طربت في صوتها كيف تصنع
تمد نظام القول ثم ترده إلى صلصل من صوتها يترجع
وله فيها :
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر
ألا ليت أني حيث صارت بها النوى جليس لسلمى كلما عج مزهر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها يطير إليها قلبه حين ينظر
فقيل لها :
سلامة القس لذلك .
(
سلامة : بتشديد اللام ،
وحبابة : بتخفيف الباء الموحدة ) .