ذكر
جذيمة الأبرش [ ص: 313 ] قال : وكان
جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا ، وأبعدهم مغارا ، وأشدهم نكاية ، وأول من اجتمع له الملك بأرض
العراق ، وضم إليه العرب ، وغزا بالجيوش ، وكان به برص فكنت العرب عنه ، فقيل : الوضاح ، والأبرش ، إعظاما له .
وكانت منازله ما بين
الحيرة والأنبار وبقة وهيت وعين التمر وأطراف البر إلى
العمير وخفية ، وتجبى إليه الأموال ، وتفد إليه الوفود .
وكان غزا
طسما وجديسا في منازلهم من
اليمامة ، فأصاب
حسان بن تبع أسعد أبي كرب قد أغار عليهم فعاد بمن معه ، وأصاب
حسان سرية
لجذيمة فاجتاحها .
وكان له صنمان يقال لهما الضيزنان ، وكانت
إياد بعين أباغ ، فذكر
لجذيمة غلام من
لخم في أخواله من
إياد يقال له :
عدي بن نصر بن ربيعة ، له جمال وظرف ، فغزاهم
جذيمة ، فبعثت
إياد من سرق صنميه وحملهما إلى
إياد ، فأرسلت إليه : إن صنميك أصبحا فينا زهدا فيك ورغبة فينا ، فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا دفعناهما إليك . قال : وتدفعون معهما
عدي بن نصر ، فأجابوه
[ ص: 314 ] إلى ذلك وأرسلوه مع الصنمين فضمه إلى نفسه وولاه شرابه .
فأبصرته
رقاش أخت
جذيمة فعشقته وراسلته ليخطبها إلى
جذيمة ، فقال : لا أجترئ على ذلك ولا أطمع فيه . قالت : إذا جلس على شرابه فاسقه صرفا واسق القوم ممزوجا ، فإذا أخذت الخمر فيه فاخطبني إليه فلن يردك ، فإذا زوجك فأشهد القوم .
ففعل
عدي ما أمرته ، فأجابه
جذيمة وأملكه إياها ، فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح بالخلوق ، فقال له
جذيمة ، وأنكر ما رأى به : ما هذه الآثار يا
عدي ؟ قال : آثار العرس . قال : أي عرس ؟ قال : عرس
رقاش . قال : من زوجكما ويحك ! قال : الملك . فندم
جذيمة وأكب على الأرض متفكرا ، وهرب
عدي ، فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر ، فأرسل إليها
جذيمة : خبريني وأنت لا تكذبيني أبحر زنيت أم بهجين أم بعبد فأنت أهل لعبد أم بدون فأنت أهل لدون .
فقالت : لا بل أنت زوجتني امرأ عربيا حسيبا ولم تستأمرني في نفسي . فكف عنها وعذرها .
ورجع
عدي إلى
إياد فكان فيهم . فخرج يوما مع فتية متصيدين ، فرمى به فتى منهم في ما بين جبلين ، فتنكس فمات .
فحملت
رقاش فولدت غلاما فسمته
عمرا ، فلما ترعرع وشب ألبسته وعطرته وأزارته خاله ، فلما رآه أحبه وجعله مع ولده ، وخرج
جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة خصيبة ، فأقام في روضة ذات زهر وغدر ، فخرج ولده
وعمرو معهم يجتنون الكمأة ، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها ، وإذا أصابها
عمرو خبأها ، فانصرفوا إلى
جذيمة يتعادون ،
وعمرو يقول :
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده في فيه
.
[ ص: 315 ] فضمه
جذيمة إليه والتزمه وسر بقوله وفعله ، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوق ، فكان
أول عربي ألبس طوقا .
فبينا هو على أحسن حالة إذ استطارته الجن ، فطلبه
جذيمة في الآفاق زمانا فلم يقدر عليه ، ثم أقبل رجلان من
بلقين قضاعة ، يقال لهما :
مالك وعقيل ابنا
فارج بن مالك من
الشام يريدان
جذيمة ، وأهديا له طرفا ، فنزلا منزلا ومعهما قينة لهما تسمى
أم عمرو ، فقدمت طعاما . فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان قد تلبد شعره وطالت أظافره وساءت حاله ، فجلس ناحية عنهما ومد يده يطلب الطعام ، فناولته القينة كراعا فأكلها ، ثم مد يده ثانية ، فقالت : لا تعط العبد كراعا فيطمع في الذراع ! فذهبت مثلا ، ثم سقتهما من شراب معها وأوكت زقها ، فقال
عمرو بن عدي :
صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو بصاحبك الذي لا تصبحينا
فسألاه عن نفسه ، فقال : إن تنكراني أو تنكرا نسبي ، فإني أنا
عمرو بن عدي بن تنوخية اللخمي ، وغدا ما ترياني في
نمارة غير معصي .
فنهضا وغسلا رأسه وأصلحا حاله وألبساه ثيابا وقالا : ما كنا لنهدي
لجذيمة أنفس من ابن أخته ! فخرجا به إلى
جذيمة ، فسر به سرورا شديدا وقال : لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق ، فما ذهب من عيني وقلبي إلى الساعة ، وأعادوا عليه الطوق ، فنظر إليه وقال : " شب
عمرو عن الطوق " ، وأرسلها مثلا ، وقال
لمالك وعقيل : حكمكما . قالا : حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت ، فهما ندمانا
جذيمة اللذان يضربان مثلا .
[ ص: 316 ] وكان ملك العرب
بأرض الجزيرة ومشارف
الشام عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة العمليقي من عاملة
العمالقة ، فتحارب هو
وجذيمة ، فقتل
عمرو وانهزمت عساكره ، وعاد
جذيمة سالما .
وملكت بعد
عمرو ابنته
الزباء ، واسمها
نائلة ، وكان جنود
الزباء بقايا
العماليق وغيرهم ، وكان لها من
الفرات إلى
تدمر . فلما استجمع لها أمرها واستحكم ملكها اجتمعت لغزو
جذيمة تطلب بثأر أبيها ، فقالت لها أختها
ربيبة ، وكانت عاقلة : إن غزوت
جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده والحرب سجال ، وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة . فأجابتها إلى ذلك ، وكتبت إلى
جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها ، وكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلا قبحا في السماع وضعفا في السلطان ، وأنها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفوا غيره .
فلما انتهى كتاب
الزباء إليه استخف ما دعته إليه وجمع إليه ثقاته ، وهو ببقية من شاطئ
الفرات ، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم ، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ويستولي على ملكها .
وكان فيهم رجل يقال له
قصير بن سعد من لخم ، وكان
سعد تزوج أمة
لجذيمة فولدت له
قصيرا ، وكان أريبا حازما ناصحا
لجذيمة قريبا منه ، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال : رأي فاتر ، وغدر حاضر ، فذهبت مثلا ، وقال
لجذيمة : اكتبها إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها .
فلم يوافق
جذيمة ما أشار به
قصير وقال له : لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح ، فذهبت مثلا .
ودعا
جذيمة ابن أخته
عمرو بن عدي فاستشاره ، فشجعه على المسير وقال : إن
نمارة قومي مع
الزباء فلو رأوك صاروا معك ، فأطاعه .
[ ص: 317 ] فقال
قصير : لا يطاع
لقصير أمر . وقالت العرب : ببقة أبرم الأمر فذهبتا مثلا .
واستخلف
جذيمة عمرو بن عدي على ملكه ،
وعمرو بن عبد الجن على خيوله معه ، وسار في وجوه أصحابه ، فلما نزل
الفرضة قال
لقصير : ما الرأي ؟ قال : ببقة تركت الرأي ، فذهبت مثلا .
واستقبله رسل
الزباء بالهدايا والألطاف ، فقال : يا
قصير كيف ترى ؟ قال : خطر يسير ، وخطب كبير ، فذهبت مثلا ، وستلقاك الخيول ، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة ، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإن القوم غادرون ، فاركب العصا ، وكانت فرسا
لجذيمة لا تجارى ، فإني راكبها ومسايرك عليها .
فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا ، فركبها
قصير ، ونظر إليه
جذيمة موليا على متنها ، فقال : " ويل أمه حزما على متن العصا ! " فذهبت مثلا . وقال : " يا ضل من تجري به العصا " وجرت به إلى غروب الشمس ، ثم نفقت وقد قطعت أرضا بعيدة ، فبنى عليها برجا يقال له برج العصا ، مثل تضربه .
وقالت العرب : " خير ما جاءت به العصا " . مثل تضربه .
وسار
جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على
الزباء ، فلما رأته تكشفت ، فإذا هي مضفورة الإسب ، والإسب بالباء الموحدة هو شعر الإست ، وقالت له : " يا
جذيمة أدأب عروس ترى ؟ " فذهبت مثلا . فقال : " بلغ المدى ، وجف الثرى ، وأمر غدر أرى " فذهبت مثلا . فقالت له : " أما وإلهي ما بنا من عدم مواس ، ولا قلة أواس ، ولكنها شيمة من أناس " . فذهبت مثلا . وقالت له : أنبئت أن
[ ص: 318 ] دماء الملوك شفاء من الكلب . ثم أجلسته على نطع ، وأمرت بطست من ذهب ، فأعد له ، وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها ثم أمرت براهشيه فقطعا ، وقدمت إليه الطست ، وقد قيل لها : إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه . وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة إلا في قتال تكرمة للملك . فلما ضعفت يداه سقطتا ، فقطر من دمه في غير الطست ، فقالت : لا تضيعوا دم الملك ! فقال
جذيمة : " دعوا دما ضيعه أهله " . فذهبت مثلا .
فهلك
جذيمة ، وخرج
قصير من الحي الذين هلكت العصا بين أظهرهم ، حتى قدم على
عمرو بن عدي ، وهو
بالحيرة ، فوجده قد اختلف هو
وعمرو بن عبد الجن فأصلح بينهما ، وأطاع الناس
عمرو بن عدي ، وقال له
قصير : تهيأ واستعد ولا تطل دم خالك . فقال : " كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو ؟ " فذهبت مثلا .
وكانت
الزباء سألت كهنة عن أمرها وهلاكها ، فقالوا لها : نرى هلاكك بسبب
عمرو بن عدي ، ولكن حتفك بيدك ، فحذرت عمرا واتخذت نفقا من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها ، ثم قالت : إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني ، ودعت رجلا مصورا حاذقا ، فأرسلته إلى
عمرو بن عدي متنكرا وقالت له : صوره جالسا وقائما ومتفضلا ومتنكرا ومتسلحا بهيئته ولبسه ولونه ثم أقبل إلي . ففعل المصور ما أوصته
الزباء وعاد إليها ، وأرادت أن تعرف
عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته .
وقال
قصير لعمرو : اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها . فقال
عمرو : ما أنا بفاعل . فقال
قصير : " خل عني إذا وخلاك ذم " ، فذهبت مثلا . فقال
عمرو : فأنت أبصر ، فجدع
قصير أنفه ودق بظهره وخرج كأنه هارب ، وأظهر أن
عمرا فعل ذلك به ، وسار حتى قدم على
الزباء ، فقيل لها : إن
قصيرا بالباب ، فأمرت به فأدخل عليها ، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب ، فقالت : " لأمر ما جدع
قصير أنفه " ، فذهبت مثلا . قالت : ما الذي أرى بك يا
قصير ؟ قال : زعم
عمرو أني غدرت خاله وزينت له المسير إليك ومالأتك عليه ; ففعل بي ما ترين فأقبلت إليك ، وعرفت أني لا أكون مع أحد
[ ص: 319 ] هو أثقل عليه منك . فأكرمته ، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك .
فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به ، قال لها : إن لي
بالعراق أموالا كثيرة ، ولي بها طرائف وعطر ، فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليك من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات فتصيبين أرباحا وبعض ما لا غناء للملوك عنه . فسرحته ودفعت إليه أموالا وجهزت معه عيرا ، فسار حتى قدم
العراق وأتى
عمرو بن عدي متخفيا وأخبره الخبر وقال : جهزني بالبز والطرف وغير ذلك ، لعل الله يمكن من
الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك . فأعطاه حاجته ، فرجع بذلك كله إلى
الزباء فعرضه عليها ، فأعجبها وسرها وازدادت به ثقة ، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به في المرة الأولى . فسار حتى قدم
العراق وحمل من عند
عمرو حاجته ولم يدع طرفة ولا متاعا قدر عليه ، ثم عاد الثالثة فأخبر
عمرا الخبر وقال : اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيء لهم الغرائر - وهو أول من عملها - واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رءوسهما من باطنهما . وقال له : إذا دخلت مدينة
الزباء أقمتك على باب نفقها ، وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة ، فمن قاتلهم قاتلوه ، وإن أقبلت
الزباء تريد نفقها قتلتها .
ففعل
عمرو ذلك وساروا ، فلما كانوا قريبا من
الزباء ، تقدم
قصير إليها فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل من الثياب والطرائف ، وسألها أن تخرج وتنظر إلى الإبل وما عليها ، وكان
قصير يكمن النهار ويسير الليل ، وهو أول من فعل ذلك ، فخرجت
الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض ، فقالت : يا
قصير ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفانا باردا شديدا أم الرجال جثما قعودا
[ ص: 320 ] ودخلت الإبل المدينة ، فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر ، ودل
قصير عمرا على باب النفق وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح ، وقام
عمرو على باب النفق . وأقبلت
الزباء تريد الخروج من النفق ، فلما أبصرت
عمرا قائما على باب النفق عرفته بالصورة التي عملها المصور ، فمصت سما كان في خاتمها ، فقالت : " بيدي لا بيد
عمرو " ! فذهبت مثلا . وتلقاها
عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة ثم عاد إلى
العراق . وصار الملك بعد
جذيمة لابن أخته
عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم ، وهو أول من اتخذ
الحيرة منزلا من ملوك العرب ، فلم يزل ملكا حتى مات ، وهو ابن مائة وعشرين سنة ، وقيل : مائة وثماني عشرة سنة ، منها أيام ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة ، وأيام
أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر ، وأيام ابنه
nindex.php?page=showalam&ids=15954سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران ، وكان منفردا بملكه يغزو المغازي ، ولا يدين لملوك الطوائف إلى أن ملك
أردشير بن بابك أهل فارس . ولم يزل الملك في ولده إلى أن كان آخرهم
النعمان بن المنذر ، إلى أيام ملوك
كندة ، على ما نذكره إن شاء الله .
وقيل في سبب مسير ولد
نصر بن ربيعة إلى
العراق غير ما تقدم ، وهو رؤيا رآها
ربيعة ، وسيرد ذكرها عند أمر
الحبشة ، إن شاء الله تعالى .