صفحة جزء
فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن واستماعه وخشوعه وبكائه عند قراءته ، واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك

كان له صلى الله عليه وسلم حزب يقرؤه ، ولا يخل به ، وكانت قراءته ترتيلا لا هذا ولا عجلة ، بل قراءة مفسرة حرفا حرفا . وكان يقطع قراءته آية آية ، وكان يمد عند حروف المد ، فيمد ( الرحمن ) ويمد ( الرحيم ) وكان يستعيذ بالله من الشيطان [ ص: 464 ] الرجيم في أول قراءته فيقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وربما كان يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ) وكان تعوذه قبل القراءة .

وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره ، وأمر عبد الله بن مسعود ، فقرأ عليه وهو يسمع . وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه .

وكان يقرأ القرآن قائما ، وقاعدا ، ومضطجعا ، ومتوضئا ، ومحدثا ، ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة .

وكان صلى الله عليه وسلم يتغنى به ، ويرجع صوته به أحيانا كما رجع يوم الفتح في قراءته ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) . وحكى عبد الله بن مغفل ترجيعه ، آ آ آ ثلاث مرات ذكره البخاري .

وإذا جمعت هذه الأحاديث إلى قوله : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) . وقوله : [ ص: 465 ] ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) . وقوله ( ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ) . علمت أن هذا الترجيع منه صلى الله عليه وسلم كان اختيارا لا اضطرارا لهز الناقة له ، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلا تحت الاختيار فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه ويفعله اختيارا ليؤتسى به وهو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته ، ثم يقول كان يرجع في قراءته فنسب الترجيع إلى فعله . ولو كان من هز الراحلة ، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا .

وقد استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري فلما أخبره بذلك قال : ( لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا ) أي حسنته وزينته بصوتي تزيينا ، [ ص: 466 ] وروى أبو داود في " سننه " عن عبد الجبار بن الورد قال : سمعت ابن أبي مليكة يقول : قال عبد الله بن أبي يزيد : مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فإذا رجل رث الهيئة فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن . قال فقلت لابن أبي مليكة يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال يحسنه ما استطاع )

قلت : لا بد من كشف هذه المسألة وذكر اختلاف الناس فيها ، واحتجاج كل فريق ، وما لهم وعليهم في احتجاجهم ، وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته ، فقالت طائفة : تكره قراءة الألحان ، وممن نص على ذلك أحمد ، ومالك وغيرهما ، فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان : ما تعجبني وهو محدث . وقال في رواية المروزي : القراءة بالألحان بدعة لا تسمع ، وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب : قراءة الألحان بدعة ، وقال في رواية ابنه عبد الله ، ويوسف بن موسى ، ويعقوب بن بختان ، والأثرم ، وإبراهيم بن الحارث : القراءة بالألحان لا تعجبني إلا أن يكون ذلك حزنا فيقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى ، وقال في رواية صالح ( زينوا القرآن بأصواتكم ) معناه أن يحسنه وقال في رواية المروزي : ( ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن ) ، وفي رواية قوله : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) ، فقال كان ابن عيينة يقول : يستغني به . وقال الشافعي : يرفع صوته ، وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة [ ص: 467 ] الفتح والترجيع فيها ، فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان ، وأنكر الأحاديث التي يحتج بها في الرخصة في الألحان .

وروى ابن القاسم ، عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال لا تعجبني ، وقال إنما هو غناء يتغنون به ، ليأخذوا عليه الدراهم ، وممن رويت عنه الكراهة أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ، والقاسم بن محمد ، والحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي . وقال عبد الله بن يزيد العكبري : سمعت رجلا يسأل أحمد ما تقول في القراءة بالألحان ؟ فقال ما اسمك ؟ قال محمد قال أيسرك أن يقال لك : يا موحمد ممدودا قال القاضي أبو يعلى : هذه مبالغة في الكراهة . وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي : أوصى إلي رجل بوصية وكان فيما خلف جارية تقرأ بالألحان وكانت أكثر تركته أو عامتها ، فسألت أحمد بن حنبل ، والحارث بن مسكين ، وأبا عبيد كيف أبيعها ؟ فقالوا : بعها ساذجة فأخبرتهم بما في بيعها من النقصان ، فقالوا : بعها ساذجة ، قال القاضي : وإنما قالوا ذلك ، لأن سماع ذلك منها مكروه ، فلا يجوز أن يعاوض عليه كالغناء .

قال ابن بطال : وقالت طائفة : التغني بالقرآن ،هو تحسين الصوت به والترجيع بقراءته ، قال : والتغني بما شاء من الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك ، والنضر بن شميل ، قال : وممن أجاز الألحان في القرآن : ذكر الطبري ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي موسى : ( ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى ويتلاحن وقال : من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل ) وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتا بالقرآن فقال له عمر : ( اعرض علي سورة كذا ، فعرض عليه فبكى عمر ، وقال ما كنت أظن أنها نزلت ) قال : وأجازه ابن عباس ، وابن مسعود وروي ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد ، [ ص: 468 ] يتتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان . وذكر الطحاوي ، عن أبي حنيفة وأصحابه : أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان . وقال محمد بن عبد الحكم : رأيت أبي ، والشافعي ، ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان وهذا اختيار ابن جرير الطبري .

قال المجوزون - واللفظ لابن جرير - : الدليل : على أن معنى الحديث تحسين الصوت ، والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع قراءته ، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه - : ما روى سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن ) ومعقول عند ذوي الحجا ، أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به . وروي في هذا الحديث ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ) قال الطبري : وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا ، قال ولو كان كما قال ابن عيينة يعني : يستغني به عن غيره لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى ، والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع ، قال الشاعر


تغن بالشعر إما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار



قال : وأما ادعاء الزاعم ، أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب ، فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم بكلام العرب .

وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى :


وكنت امرءا زمنا بالعراق     عفيف المناخ طويل التغن



[ ص: 469 ] وزعم أنه أراد بقوله : طويل التغني : طويل الاستغناء فإنه غلط منه ، وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع : الإقامة من قول العرب : غنى فلان بمكان كذا : إذا أقام به ، ومنه قوله تعالى : ( كأن لم يغنوا فيها ) [ الأعراف : 92 ] ، واستشهاده بقول الآخر :


كلانا غني عن أخيه حياته     ونحن إذا متنا أشد تغانيا



فإنه إغفال منه ، وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنى : إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه ، كما يقال تضارب الرجلان ، إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه ، وتشاتما ، وتقاتلا . ومن قال : هذا في فعل اثنين ، لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد ، فيقول : تغانى زيد ، وتضارب عمرو ، وذلك غير جائز أن يقول : تغنى زيد بمعنى استغنى ، إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء ، وهو غير مستغن كما يقال تجلد فلان إذا أظهر جلدا من نفسه ، وهو غير جليد ، وتشجع ، وتكرم ، فإن وجه موجه التغني بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده من مفهوم كلام العرب ، كانت المصيبة في خطئه في ذلك أعظم لأنه يوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذكره لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن ، وإنما أذن له أن يظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال ، وهذا لا يخفى فساده . قال : ومما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضا أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال [ ص: 470 ] أن يوصف أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن ، إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة ، وإن كان كذلك ، فهو غلط من وجهين ، أحدهما : من اللغة ، والثاني : من إحالة المعنى عن وجهه . أما اللغة ، فإن الأذن مصدر قوله : أذن فلان لكلام فلان ، فهو يأذن له : إذا استمع له وأنصت ، كما قال تعالى : ( وأذنت لربها وحقت ) [ الانشقاق : 2 ] ، بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك ، كما قال عدي بن زيد :


إن همي في سماع وأذن



بمعنى ، في سماع واستماع . فمعنى قوله : ما أذن الله لشيء ، إنما هو : ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن . وأما الإحالة في المعنى ، فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له ، انتهى كلام الطبري

قال أبو الحسن بن بطال : وقد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضا بما رواه ابن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثني موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه ، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل ) . قال : وذكر عمر بن شبة ، قال : ذكر لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله ( يتغنى بالقرآن ) يستغني به ، فقال لم يصنع ابن عيينة شيئا ، حدثنا ابن جريج ، عن [ ص: 471 ] عطاء ، عن عبيد بن عمير ، قال : كانت لداود نبي الله صلى الله عليه وسلم معزفة يتغنى عليها يبكي ويبكي . وقال ابن عباس : إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا ، تكون فيهن ، ويقرأ قراءة يطرب منها الجموع .

وسئل الشافعي رحمه الله عن تأويل ابن عيينة فقال : نحن أعلم بهذا ، لو أراد به الاستغناء ، لقال : " من لم يستغن بالقرآن " ، ولكن لما قال : ( يتغنى بالقرآن ) ، علمنا أنه أراد به التغني .

قالوا : ولأن تزيينه ، وتحسين الصوت به والتطريب بقراءته أوقع في النفوس وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه ، ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع ، ومعانيه إلى القلوب ، وذلك عون على المقصود ، وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء ، وبمنزلة الأفاويه والطيب الذي يجعل في الطعام ، لتكون الطبيعة أدعى له قبولا وبمنزلة الطيب والتحلي وتجمل المرأة لبعلها ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح . قالوا : ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه ، وكما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد والتوكل ، وعن السفاح بالنكاح ، وعن القمار بالمراهنة بالنصال ، وسباق الخيل ، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني ، ونظائره كثيرة جدا .

قالوا : والمحرم ، لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة أو خالصة ، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئا من ذلك فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه ولا تحول بين السامع وبين فهمه ، ولو كانت متضمنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها لأخرجت الكلمة عن موضعها وحالت بين السامع وبين فهمها ولم يدر ما معناها ، والواقع بخلاف ذلك .

قالوا : وهذا التطريب والتلحين أمر راجع إلى كيفية الأداء ، وتارة يكون سليقة وطبيعة ، وتارة يكون تكلفا وتعملا ، وكيفيات الأداء لا تخرج الكلام عن وضع مفرداته ، بل هي صفات لصوت المؤدي جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه [ ص: 472 ] وإمالته ، وجارية مجرى مدود القراء الطويلة والمتوسطة ، لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف ، وكيفيات الألحان والتطريب متعلقة بالأصوات والآثار في هذه الكيفيات لا يمكن نقلها بخلاف كيفيات أداء الحروف ، فلهذا نقلت تلك بألفاظها ولم يمكن نقل هذه بألفاظها بل نقل منها ما أمكن نقله كترجيع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح بقوله " آ آ آ " . قالوا : والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين : مد وترجيع ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد " الرحمن " ويمد " الرحيم " وثبت عنه الترجيع كما تقدم .

قال المانعون من ذلك : الحجة لنا من وجوه . أحدها : ما رواه حذيفة بن اليمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم ، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ) رواه أبو الحسن رزين في " تجريد الصحاح " ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " . واحتج به القاضي أبو يعلى في " الجامع " واحتج معه بحديث آخر ، أنه صلى الله عليه وسلم ذكر شرائط الساعة ، وذكر أشياء ، منها : ( أن يتخذ القرآن مزامير ، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء )

[ ص: 473 ] قالوا : وقد ( جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء ، فقيل له : اقرأ ، فرفع صوته وطرب ، وكان رفيع الصوت فكشف أنس عن وجهه وكان على وجهه خرقة سوداء ، وقال يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون ، وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه )

قالوا : وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب كما روى ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن ) رواه الدارقطني .

وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أبيه قال كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المد ليس فيها ترجيع . قالوا : والترجيع والتطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز ، ومد ما ليس بممدود ، وترجيع الألف الواحد ألفات ، والواو واوات ، والياء ياءات ، فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن ، وذلك غير جائز ، قالوا : ولا حد لما يجوز من ذلك وما لا يجوز منه ، فإن حد بحد معين كان تحكما في كتاب الله تعالى ودينه وإن لم يحد بحد أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات وكثرة الترجيعات ، والتنويع في أصناف الإيقاعات والألحان المشبهة للغناء ، كما يفعل أهل الغناء بالأبيات ، وكما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز ، ويفعله كثير من قراء الأصوات مما يتضمن تغيير كتاب الله والغناء به على نحو ألحان الشعر والغناء ويوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء ، اجتراء على الله وكتابه وتلاعبا بالقرآن وركونا إلى تزيين الشيطان ، ولا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام ، ومعلوم : أن التطريب والتلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريبا فالمنع منه كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام ، فهذا [ ص: 474 ] نهاية إقدام الفريقين ، ومنتهى احتجاج الطائفتين .

وفصل النزاع ، أن يقال : التطريب والتغني على وجهين ، أحدهما : ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم ، بل إذا خلي وطبعه ، واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز ، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم ( لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ) والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة ، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع ، وعدم التكلف والتصنع فيه فهو مطبوع لا متطبع ، وكلف لا متكلف ، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه ، وهو التغني الممدوح المحمود ، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع ، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها .

الوجه الثاني : ما كان من ذلك صناعة من الصنائع ، وليس في الطبع السماحة به ، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن ، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة ، والمركبة على إيقاعات مخصوصة ، وأوزان مخترعة ، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف ، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها ، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه ، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ، ويتبين الصواب من غيره ، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة ، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة ، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب ويحسنون أصواتهم بالقرآن ، ويقرءونه بشجى تارة ، وبطرب تارة ، وبشوق تارة ، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له ، بل أرشد إليه وندب إليه وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به ، وقال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) وفيه وجهان : أحدهما : أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله ، [ ص: 475 ] والثاني : أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية