وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ فلا يصح ؛ لخمسة أوجه :
أحدها : أن لفظ الحديث أنه خير غلاما بين أبويه ، وحقيقة الغلام من لم
[ ص: 427 ] يبلغ ، فحمله على البالغ إخراج له عن حقيقته إلى مجازه بغير موجب ولا قرينة صارفة .
الثاني : أن
البالغ لا حضانة عليه ، فكيف يصح أن يخير ابن أربعين سنة بين أبوين ؟ هذا من الممتنع شرعا وعادة ، فلا يجوز حمل الحديث عليه .
الثالث : أنه لم يفهم أحد من السامعين أنهم تنازعوا في رجل كبير بالغ عاقل ، وأنه خير بين أبويه ، ولا يسبق إلى هذا فهم أحد البتة ، ولو فرض تخييره لكان بين ثلاثة أشياء : الأبوين ، والانفراد بنفسه .
الرابع : أنه لا يعقل في العادة ولا العرف ولا الشرع أن تنازع الأبوان في رجل كبير بالغ عاقل ، كما لا يعقل في الشرع تخيير من هذه حاله بين أبويه .
الخامس : أن في بعض ألفاظ الحديث أن الولد كان صغيرا لم يبلغ ، ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ، وهو حديث
رافع بن سنان ، وفيه : فجاء ابن لها صغير لم يبلغ ، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا والأم هاهنا ، ثم خيره .
وأما قولكم : إن
بئر أبي عنبة على أميال من
المدينة ، فجوابه : مطالبتكم أولا بصحة هذا الحديث ومن ذكره ، وثانيا : بأن مسكن هذه المرأة كان بعيدا من هذه البئر ، وثالثا بأن من له نحو العشر سنين لا يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة ، وكل هذا مما لا سبيل إليه ، فإن العرب وأهل البوادي يستقي أولادهم الصغار من آبار هي أبعد من ذلك .
وأما تقييدنا له بالسبع ، فلا ريب أن الحديث لا يقتضي ذلك ، ولا هو أمر مجمع عليه ، فإن للمخيرين قولين ، أحدهما : أنه يخير لخمس ، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق بن راهويه ، ذكره عنه
حرب في " مسائله " ، ويحتج لهؤلاء بأن الخمس هي السن التي يصح فيها سماع الصبي ، ويمكن أن يعقل فيها ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=7820محمود بن الربيع :
[ ص: 428 ] (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003526عقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في في وأنا ابن خمس سنين ) . والقول الثاني : أنه إنما يخير لسبع ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله ، واحتج لهذا القول بأن التخيير يستدعي التمييز والفهم ، ولا ضابط له في الأطفال ، فضبط بمظنته وهي السبع ، فإنها
أول سن التمييز ؛ ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم حدا للوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة .
وقولكم : إن الأحاديث وقائع أعيان ، فنعم هي كذلك ، ولكن يمتنع حملها على تخيير الرجال البالغين كما تقدم . وفي بعضها لفظ " غلام " ، وفي بعضها لفظ " صغير لم يبلغ " ، وبالله التوفيق .