وأما أصحاب الملاحم فركبوا ملاحمهم من أشياء .
أحدها : من أخبار الكهان .
والثاني : من أخبار منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بين أهل الكتاب .
والثالث : من أمور أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بها جملة وتفصيلا .
والرابع : من أمور أخبر بها من له كشف من الصحابة ومن بعدهم .
والخامس : من منامات متواطئة على أمر كلي وجزئي . فالجزئي : يذكرونه بعينه ، والكلي : يفصلونه بحدس وقرائن تكون حقا أو تقارب .
والسادس : من استدلال بآثار علوية جعلها الله تعالى علامات وأدلة وأسبابا لحوادث أرضية لا يعلمها أكثر الناس ، فإن الله سبحانه لم يخلق شيئا سدى ولا عبثا . وربط سبحانه العالم العلوي بالسفلي ، وجعل علويه مؤثرا في سفليه دون العكس ، فالشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، وإن كان كسوفهما لسبب شر يحدث في الأرض ؛ ولهذا شرع سبحانه تغيير الشر عند كسوفهما بما يدفع ذلك الشر المتوقع من الصلاة والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار والعتق ، فإن هذه الأشياء تعارض أسباب الشر ، وتقاومها وتدفع موجباتها إن قويت عليها .
وقد جعل الله سبحانه حركة الشمس والقمر ، واختلاف مطالعهما سببا للفصول التي هي سبب الحر والبرد ، والشتاء والصيف ، وما يحدث فيهما مما يليق بكل فصل منها ، فمن له اعتناء بحركاتهما ، واختلاف مطالعهما ، يستدل
[ ص: 699 ] بذلك على ما يحدث في النبات والحيوان وغيرهما ، وهذا أمر يعرفه كثير من أهل الفلاحة والزراعة ، ونواتي السفن لهم استدلالات بأحوالهما ، وأحوال الكواكب على أسباب السلامة والعطب من اختلاف الرياح وقوتها وعصوفها ، لا تكاد تختل .
والأطباء لهم استدلالات بأحوال القمر والشمس على اختلاف طبيعة الإنسان وتهيئها لقبول التغير ، واستعدادها لأمور غريبة ونحو ذلك .
وواضعو الملاحم لهم عناية شديدة بهذا ، وأمور متوارثة عن قدماء المنجمين ، ثم يستنتجون من هذا كله قياسات وأحكاما تشبه ما تقدم ونظيره . وسنة الله في خلقه جارية على سنن اقتضته حكمته ، فحكم النظير حكم نظيره ، وحكم الشيء حكم مثله ، وهؤلاء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام القضاء والقدر ، واعتبار بعضه ببعض ، والاستدلال ببعضه على بعض ، كما صرف أئمة الشرع قوى أذهانهم إلى أحكام الأمر والشرع ، واعتبار بعضه ببعض ، والاستدلال ببعضه على بعض ، والله سبحانه له الخلق والأمر ، ومصدر خلقه وأمره عن حكمة لا تختل ولا تتعطل ولا تنتقض ، ومن صرف قوى ذهنه وفكره ، واستنفد ساعات عمره في شيء من أحكام هذا العالم وعلمه ، كان له فيه من النفوذ والمعرفة والاطلاع ما ليس لغيره .
ويكفي الاعتبار بفرع واحد من فروعه ، وهو
عبارة الرؤيا ، فإن العبد إذا نفذ فيها ، وكمل اطلاعه جاء بالعجائب . وقد شاهدنا نحن وغيرنا من ذلك أمورا عجيبة ، يحكم فيها المعبر بأحكام متلازمة صادقة سريعة وبطيئة ، ويقول سامعها : هذه علم غيب .
وإنما هي معرفة ما غاب عن غيره بأسباب انفرد هو بعلمها ، وخفيت على غيره والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك ما مضرته راجحة على منفعته ، أو ما لا منفعة فيه ، أو ما يخشى على صاحبه أن يجره إلى الشرك ، وحرم بذل المال في ذلك ، وحرم أخذه به ؛ صيانة للأمة عما يفسد عليها الإيمان أو يخدشه ، بخلاف علم عبارة الرؤيا ، فإنه حق لا باطل ؛ لأن الرؤيا
[ ص: 700 ] مستندة إلى الوحي المنامي ، وهي جزء من أجزاء النبوة ؛ ولهذا كلما كان الرائي أصدق كانت رؤياه أصدق ، وكلما كان المعبر أصدق ، وأبر وأعلم كان تعبيره أصح ، بخلاف الكاهن والمنجم ، وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين ؛ فإن صناعتهم لا تصح من صادق ولا بار ، ولا متقيد بالشريعة ، بل هم أشبه بالسحرة الذين كلما كان أحدهم أكذب وأفجر ، وأبعد عن الله ورسوله ودينه ، كان السحر معه أقوى وأشد تأثيرا ، بخلاف علم الشرع والحق ، فإن صاحبه كلما كان أبر وأصدق وأدين كان علمه به ونفوذه فيه أقوى ، وبالله التوفيق .