صفحة جزء
[ ص: 136 ] فصل

وأما من قال : إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين ، وسعى له سعيين ، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة ، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد ، عن ابن عمر ، أنه جمع بين حج وعمرة معا ، وقال : سبيلهما واحد ، قال : وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين . وقال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت .

وعن علي بن أبي طالب ، أنه جمع بينهما ، وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت .

وعن علي - رضي الله عنه - أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، فطاف طوافين ، وسعى سعيين .

وعن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود قال : طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحجته وعمرته طوافين ، وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود . وعن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طوافين ، وسعى سعيين .

وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة ، بل لا يصح منها حرف واحد .

أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة ، وقال الدارقطني : لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك الحديث .

[ ص: 137 ] وأما حديث علي - رضي الله عنه - الأول ، فيرويه حفص بن أبي داود . وقال أحمد ومسلم : حفص متروك الحديث . وقال ابن خراش : هو كذاب يضع الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، ضعيف .

وأما حديثه الثاني : فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي . حدثني أبي عن أبيه عن جده قال الدارقطني : عيسى بن عبد الله يقال له مبارك ، وهو متروك الحديث .

وأما حديث علقمة عن عبد الله ، فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد عن إبراهيم ، عن علقمة . قال الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء انتهى . وفيه عبد العزيز بن أبان ، قال يحيى : هو كذاب خبيث . وقال الرازي والنسائي : متروك الحديث .

وأما حديث عمران بن حصين ، فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي ، وحدث به من حفظه ، فوهم فيه ، وقد حدث به على الصواب مرارا ، ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي .

وقد روى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث الدراوردي ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرن بين حجته وعمرته ، أجزأه لهما طواف واحد ) . ولفظ الترمذي : ( من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف وسعي واحد عنهما ، حتى يحل منهما جميعا ) .

وفي الصحيحين ( عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : خرجنا مع [ ص: 138 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال : " من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ، فطاف الذين أهلوا بالعمرة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا ) .

وصح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : ( إن طوافك بالبيت وبالصفا والمروة ، يكفيك لحجك وعمرتك ) .

وروى عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف طوافا واحدا لحجه وعمرته . وعبد الملك : أحد الثقات المشهورين ، احتج به مسلم ، وأصحاب السنن . وكان يقال له : الميزان ، ولم يتكلم فيه بضعف ولا جرح ، وإنما أنكر عليه حديث الشفعة .


وتلك شكاة ظاهر عنه عارها



وقد روى الترمذي عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن بين الحج والعمرة ، وطاف لهما طوافا واحدا ، وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة ، فقد روى عنه سفيان ، وشعبة ، وابن نمير ، وعبد الرزاق ، والخلق عنه . قال الثوري : وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه ، وعيب عليه التدليس ، وقل من سلم منه . وقال أحمد : كان من الحفاظ ، وقال ابن معين : ليس بالقوي ، وهو صدوق يدلس . وقال أبو حاتم : إذا قال حدثنا ، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه .

وقد روى الدارقطني ، من حديث ليث بن أبي سليم قال : حدثني عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، عن جابر ، وعن ابن عمر ، وعن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم [ ص: 139 ] يطف هو وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا لعمرتهم وحجهم ، وليث بن أبي سليم ، احتج به أهل السنن الأربعة ، واستشهد به مسلم ، وقال ابن معين : لا بأس به ، وقال الدارقطني : كان صاحب سنة ، وإنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد حسب ، وقال عبد الوارث : كان من أوعية العلم ، وقال أحمد : مضطرب الحديث ، ولكن حدث عنه الناس ، وضعفه النسائي ، ويحيى في رواية عنه ، ومثل هذا حديثه حسن . وإن لم يبلغ رتبة الصحة .

وفي " الصحيحين " عن جابر قال : ( دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة ، ثم وجدها تبكي فقال : " ما يبكيك ؟ " ، فقالت : قد حضت وقد حل الناس ، ولم أحل ولم أطف بالبيت ، فقال : " اغتسلي ثم أهلي ففعلت ، ثم وقفت المواقف حتى إذا طهرت ، طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ، ثم قال : " قد حللت من حجك وعمرتك جميعا ) .

وهذا يدل على ثلاثة أمور ، أحدها : أنها كانت قارنة ، والثاني : أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد . والثالث أنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة التي حاضت فيها ، ثم أدخلت عليها الحج ، وأنها لم ترفض إحرام العمرة بحيضها ، وإنما رفضت أعمالها والاقتصار عليها ، وعائشة لم تطف أولا طواف القدوم ، بل لم تطف إلا بعد التعريف وسعت مع ذلك ، فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعد يكفي القارن ، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة ، والسعي بعد يكفي القارن ، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة ، وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولى ، لكن عائشة تعذر عليها الطواف الأول ، فصارت قصتها حجة ، فإن المرأة التي يتعذر عليها الطواف الأول ، تفعل كما فعلت عائشة ، تدخل [ ص: 140 ] الحج على العمرة ، وتصير قارنة ، ويكفيها لهما طواف الإفاضة والسعي عقيبه .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومما يبين أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطف طوافين ، ولا سعى سعيين . قول عائشة - رضي الله عنها : وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا . متفق عليه . وقول جابر : لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا ، طوافه الأول . رواه مسلم . وقوله لعائشة : ( يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ) رواه مسلم . وقوله لها في رواية أبي داود : ( طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك جميعا ) .

وقوله لها في الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين الصفا والمروة : " قد حللت من حجك وعمرتك جميعا " ، قال : والصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم نقلوا أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ، أمرهم بالتحليل إلا من ساق الهدي ، فإنه لا يحل إلا يوم النحر ، ولم ينقل أحد منهم أن أحدا منهم طاف وسعى ، ثم طاف وسعى . ومن المعلوم ، أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله . فلما لم ينقله أحد من الصحابة ، علم أنه لم يكن .

وعمدة من قال بالطوافين والسعيين ، أثر يرويه الكوفيون ، عن علي وآخر عن ابن مسعود رضي الله عنهما .

وقد روى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي - رضي الله عنه - أن القارن يكفيه طواف واحد ، وسعي واحد ، خلاف ما روى أهل الكوفة ، وما رواه العراقيون ، منه ما هو منقطع ، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون ، ولهذا طعن علماء النقل في ذلك حتى قال ابن حزم : كل ما روي في ذلك عن الصحابة ، لا يصح منه ولا كلمة واحدة . وقد نقل في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو موضوع بلا ريب . وقد حلف طاووس : ما طاف أحد من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - لحجته وعمرته إلا طوافا واحدا ، وقد ثبت مثل ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، وغيرهم رضي الله عنهم ، وهم أعلم الناس بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يخالفوها ، بل هذه الآثار صريحة في أنهم لم يطوفوا بالصفا والمروة إلا مرة واحدة .

[ ص: 141 ] وقد تنازع الناس في القارن والمتمتع ، هل عليهما سعيان أو سعي واحد ؟ على ثلاثة أقوال : في مذهب أحمد وغيره .

أحدها : ليس على واحد منهما إلا سعي واحد ، كما نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله . قال عبد الله : قلت لأبي : المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال : إن طاف طوافين ، فهو أجود . وإن طاف طوافا واحدا ، فلا بأس . قال شيخنا : وهذا منقول عن غير واحد من السلف .

الثاني : المتمتع عليه سعيان ، والقارن عليه سعي واحد ، وهذا هو القول الثاني في مذهبه ، وقول من يقوله من أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله .

والثالث : إن على كل واحد منهما سعيين ، كمذهب أبي حنيفة رحمه الله ، ويذكر قولا في مذهب أحمد رحمه الله ، والله أعلم . والذي تقدم ، هو بسط قول شيخنا وشرحه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية