وكان يصلي مدة مقامه
بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه
[ ص: 215 ] بالمسلمين بظاهر
مكة ، فأقام بظاهر
مكة أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء ، فلما كان يوم الخميس ضحى ، توجه بمن معه من المسلمين إلى
منى ، فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم ، ولم يدخلوا إلى المسجد فأحرموا منه ، بل أحرموا
ومكة خلف ظهورهم ، فلما وصل إلى
منى نزل بها ، وصلى بها الظهر والعصر وبات بها ، وكان ليلة الجمعة فلما طلعت الشمس سار منها إلى
عرفة ، وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم ، وكان من أصحابه الملبي ، ومنهم المكبر ، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء ، فوجد القبة قد ضربت له
بنمرة بأمره ، وهي قرية شرقي
عرفات ، وهي خراب اليوم ، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس ، أمر بناقته القصواء فرحلت ، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض
عرنة ،
فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة ، قرر فيها قواعد الإسلام ، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية ، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها ، وهي الدماء ، والأموال ، والأعراض ، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه ، ووضع فيها ربا الجاهلية كله ، وأبطله ، وأوصاهم بالنساء خيرا ، وذكر الحق ، الذي لهن ، والذي عليهن ، وأن الواجب لهن الرزق ، والكسوة بالمعروف ، ولم يقدر ذلك بتقدير ، وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكرهه أزواجهن ، وأوصى الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله ، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به ، ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه ، واستنطقهم : بماذا يقولون ، وبماذا يشهدون ، فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ، ونصحت فرفع أصبعه إلى السماء ، واستشهد الله عليهم ثلاث مرات ، وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم .
[ ص: 216 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم : وأرسلت إليه
nindex.php?page=showalam&ids=11696أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي أم
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس ، بقدح لبن فشربه أمام الناس ، وهو على بعيره ، فلما أتم الخطبة أمر
بلالا فأقام الصلاة ، وهذا من وهمه - رحمه الله - ، فإن قصة شربه اللبن إنما كانت بعد هذا ، حين سار إلى
عرفة ، ووقف بها هكذا جاء في " الصحيحين " مصرحا به عن
ميمونة : أن الناس شكوا في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف ، فشرب منه ، والناس ينظرون . وفي لفظ ، وهو واقف
بعرفة .
وموضع خطبته لم يكن من الموقف ، فإنه خطب
بعرنة ، وليست من الموقف ، وهو - صلى الله عليه وسلم - ، نزل
بنمرة ، وخطب
بعرنة ، ووقف
بعرفة ، وخطب خطبة واحدة ، ولم تكن خطبتين ، جلس بينهما ، فلما أتمها أمر
بلالا فأذن ، ثم أقام الصلاة ، فصلى الظهر ركعتين ، أسر فيهما بالقراءة ، وكان يوم الجمعة ، فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة ، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضا ، ومعه
أهل مكة ، وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب ، ولم يأمرهم بالإتمام ، ولا بترك الجمع ، ومن قال : إنه قال لهم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001239أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " فقد غلط فيه غلطا بينا ، ووهم وهما قبيحا ، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف
مكة ، حيث كانوا في ديارهم مقيمين .
ولهذا كان أصح أقوال العلماء : إن
أهل مكة يقصرون ويجمعون
بعرفة ، كما فعلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا أوضح دليل على أن سفر
[ ص: 217 ] القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ، ولا بأيام معلومة ، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة البتة ، وإنما التأثير لما جعله الله سببا وهو السفر ، هذا مقتضى السنة ، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون .