ثم انصرف إلى المنحر
بمنى ،
فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى . وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره ، ثم
[ ص: 240 ] أمسك وأمر
عليا أن ينحر ما غبر من المائة ، ثم أمر
عليا - رضي الله عنه - أن يتصدق بجلالها ولحومها وجلودها في المساكين ، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئا منها ، وقال نحن نعطيه من عندنا ، وقال : " من شاء اقتطع" .
فإن قيل : فكيف تصنعون بالحديث الذي في " الصحيحين " عن
أنس - رضي الله عنه - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001273صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين فبات بها ، فلما أصبح ، ركب راحلته ، فجعل يهلل ويسبح ، فلما علا على البيداء ، لبى بهما جميعا ، فلما دخل مكة أمرهم أن يحلوا ، ونحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده سبع بدن قياما ، وضحى بالمدينة كبشين أملحين ".
فالجواب : أنه لا تعارض بين الحديثين .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد ابن حزم : مخرج حديث
أنس على أحد وجوه ثلاثة .
أحدها : أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينحر بيده أكثر من سبع بدن ، كما قال
أنس ، وأنه أمر من ينحر ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين ، ثم زال عن ذلك المكان ، وأمر
عليا - رضي الله عنه - فنحر ما بقي .
الثاني : أن يكون
أنس لم يشاهد إلا نحره - صلى الله عليه وسلم - سبعا فقط بيده ، وشاهد
جابر تمام نحره - صلى الله عليه وسلم - للباقي ، فأخبر كل منهما بما رأى وشاهد .
الثالث : أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر بيده منفردا سبع بدن كما قال
أنس ، ثم أخذ هو
وعلي الحربة معا ، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين ، كما قال
غرفة بن الحارث الكندي [ ص: 241 ] أنه شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ قد أخذ بأعلى الحربة ، وأمر
عليا فأخذ بأسفلها ، ونحرا بها البدن ثم انفرد
علي بنحر الباقي من المائة ، كما قال
جابر . والله أعلم .
فإن قيل : فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ،
وأبو داود ، عن
علي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001274لما نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنه ، فنحر ثلاثين بيده ، وأمرني فنحرت سائرها .
قلنا : هذا غلط انقلب على الراوي ، فإن الذي نحر ثلاثين : هو
علي ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر سبعا بيده لم يشاهده
علي ، ولا
جابر ، ثم نحر ثلاثا وستين أخرى ، فبقي من المائة ثلاثون ، فنحرها
علي ، فانقلب على الراوي عدد ما نحره
علي بما نحره النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فإن قيل : فما تصنعون بحديث
عبد الله بن قرط ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001275إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ، ثم يوم القر " . وهو اليوم الثاني . قال : وقرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنات خمس فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ ؟ فلما وجبت جنوبها قال : فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها ، فقلت ما قال ؟ قال : " من شاء اقتطع " .
قيل نقبله ونصدقه ، فإن المائة لم تقرب إليه جملة ، وإنما كانت تقرب إليه أرسالا ، فقرب منهن إليه خمس بدنات رسلا ، وكان ذلك الرسل يبادرن ويتقربن إليه ليبدأ بكل واحدة منهن .
فإن قيل : فما تصنعون بالحديث الذي في " الصحيحين " من حديث
أبي [ ص: 242 ] بكرة في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر
بمنى ، وقال في آخره : ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما ، وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا ، لفظه لمسلم .
ففي هذا أن ذبح الكبشين كان
بمكة ، وفي حديث
أنس أنه كان
بالمدينة .
قيل : في هذا طريقتان للناس .
إحداهما : أن القول : قول
أنس ، وأنه ضحى
بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين ، وأنه صلى العيد ثم انكفأ إلى كبشين ، ففصل
أنس ، وميز بين نحره
بمكة للبدن ، وبين نحره
بالمدينة للكبشين ، وبين إنهما قصتان ، ويدل على هذا أن جميع من ذكر
نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ، إنما ذكروا أنه نحر الإبل ، وهو الهدي الذي ساقه ، وهو أفضل من نحر الغنم هناك بلا سوق ،
وجابر قد قال في صفة حجة الوداع : إنه رجع من الرمي ، فنحر البدن ، وإنما اشتبه على بعض الرواة ، أن قصة الكبشين كانت يوم عيد ، فظن أنه كان
بمنى فوهم .
الطريقة الثانية : طريقة
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم ، ومن سلك مسلكه ، إنهما عملان متغايران ، وحديثان صحيحان ، فذكر
أبو بكرة تضحيته
بمكة ،
وأنس تضحيته
بالمدينة . قال : وذبح يوم النحر الغنم ، ونحر البقر والإبل ، كما قالت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001276ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عن أزواجه بالبقر ، وهو في " الصحيحين " .
وفي " صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001277ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة بقرة يوم النحر .
[ ص: 243 ] وفي " السنن " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001278أنه نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة .
ومذهبه : أن الحاج شرع له التضحية مع الهدي ، والصحيح إن شاء الله : الطريقة الأولى ، وهدي الحاج له بمنزلة الأضحية للمقيم ، ولم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية ، بل كان هديهم هو أضاحيهم ، فهو هدي
بمنى ، وأضحية بغيرها .
وأما قول
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة : ضحى عن نسائه بالبقر ، فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية ، وأنهن كن متمتعات ، وعليهن الهدي ، فالبقر الذي نحره عنهن هو الهدي الذي يلزمهن .
ولكن في قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع إشكال : وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة .
وأجاب
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد ابن حزم عنه بجواب على أصله ، وهو أن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة لم تكن معهن في ذلك ، فإنها كانت قارنة وهن متمتعات ، وعنده لا هدي على القارن ، وأيد قوله بالحديث الذي رواه
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة ، فكنت فيمن أهل بعمرة ، فخرجنا حتى قدمنا
مكة ، فأدركني يوم
عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي ، فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001279دعي عمرتك وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ". قالت : ففعلت . فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا ، أرسل معي
nindex.php?page=showalam&ids=72عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأردفني ، وخرج إلى
[ ص: 244 ] التنعيم ، فأهللت بعمرة فقضى الله حجنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم .
وهذا مسلك فاسد تفرد به
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم عن الناس . والذي عليه الصحابة والتابعون ، ومن بعدهم ، أن
القارن يلزمه الهدي ، كما يلزم المتمتع ، بل هو متمتع حقيقة في لسان الصحابة ، كما تقدم وأما هذا الحديث فالصحيح أن هذا الكلام الأخير من قول
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة ، جاء ذلك في " صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم " مصرحا به ، فقال حدثنا
أبو كريب ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة ، عن أبيه عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة - رضي الله عنها - . . . فذكرت الحديث . وفي آخره : قال
عروة في ذلك : إنه قضى الله حجها وعمرتها . قال
هشام : ولم يكن في ذلك هدي ولا صيام ولا صدقة .
قال
أبو محمد : إن كان
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع جعل هذا الكلام
لهشام ،
nindex.php?page=showalam&ids=13608فابن نمير ،
وعبدة أدخلاه في كلام
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، وكل منهما ثقة فوكيع نسبه إلى
هشام ؛ لأنه سمع
هشاما يقوله ، وليس قول
هشام إياه بدافع أن تكون
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة قالته ، فقد يروي المرء حديثا يسنده ، ثم يفتي به دون أن يسنده ، فليس شيء من هذا بمتدافع وإنما يتعلل بمثل هذا من لا ينصف ومن اتبع هواه ، والصحيح من ذلك أن كل ثقة فمصدق فيما نقل . فإذا أضاف
عبدة nindex.php?page=showalam&ids=13608وابن نمير القول إلى
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، صدقا لعدالتهما . وإذا أضافه
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع إلى
هشام ، صدق أيضا لعدالته ، وكل صحيح ، وتكون
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة قالته
وهشام قاله .
قلت : هذه الطريقة هي اللائقة بظاهريته ، وظاهرية أمثاله ممن لا فقه له في علل الأحاديث ، كفقه الأئمة النقاد أطباء علله ، وأهل العناية بها ، وهؤلاء لا
[ ص: 245 ] يلتفتون إلى قول من خالفهم ممن ليس له ذوقهم ومعرفتهم ، بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصيارف النقاد ، الذين يميزون بين الجيد والرديء ، ولا يلتفتون إلى خطإ من لم يعرف ذلك .
ومن المعلوم ، أن
عبدة nindex.php?page=showalam&ids=13608وابن نمير لم يقولا في هذا الكلام : قالت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، وإنما أدرجاه في الحديث إدراجا ، يحتمل أن يكون من كلامهما ، أو من كلام
عروة ، أو من
هشام ، فجاء
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، ففصل وميز ، ومن فصل وميز فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره ، نعم لو قال
nindex.php?page=showalam&ids=13608ابن نمير وعبدة : قالت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع : قال
هشام ، لساغ ما قال
أبو محمد وكان موضع نظر وترجيح .
وأما كونهن تسعا وهي بقرة واحدة ، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ ، أحدها أنها بقرة واحدة بينهن ، والثاني : أنه ضحى عنهن يومئذ بالبقرة ، والثالث دخل علينا يوم النحر بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ فقيل : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه .
وقد اختلف الناس في
عدد من تجزئ عنهم البدنة والبقرة ، فقيل : سبعة وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأحمد في المشهور عنه ، وقيل عشرة وهو قول
إسحاق .
وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001280قسم بينهم المغانم فعدل الجزور بعشر شياه .
وثبت هذا الحديث ، أنه - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001281ضحى عن نسائه وهن تسع ببقرة .
وقد روى
سفيان عن
أبي الزبير ، عن
جابر ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001282أنهم نحروا البدنة في حجهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشرة وهو على شرط
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم ولم يخرجه ، وإنما أخرج قوله :
خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة .
[ ص: 246 ] وفي " المسند " : من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس :
كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى ، فاشتركنا في البقرة سبعة ، وفي الجزور عشرة . ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ، وقال : حسن غريب .
وفي " الصحيحين " عنه :
نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ، البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة .
وقال
حذيفة : شرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته بين المسلمين في البقرة عن سبعة ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد - رحمه الله - .
وهذه الأحاديث تخرج على أحد وجوه ثلاثة :
إما أن يقال : أحاديث السبعة أكثر وأصح .
وإما أن يقال عدل البعير بعشرة من الغنم ، تقويم في الغنائم لأجل تعديل القسمة . وأما كونه عن سبعة في الهدايا ، فهو تقدير شرعي .
وإما أن يقال إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة ، والأمكنة ، والإبل ففي بعضها كان البعير يعدل عشر شياه ، فجعله عن عشرة ، وفي بعضها يعدل سبعة ، فجعله عن سبعة والله أعلم .
وقد قال
أبو محمد : إنه ذبح عن نسائه بقرة للهدي وضحى عنهن ببقرة وضحى عن نفسه بكبشين ونحر عن نفسه ثلاثا وستين هديا ، وقد عرفت ما في ذلك من الوهم ولم تكن بقرة الضحية غير بقرة الهدي ، بل هي هي ، وهدي الحاج بمنزلة ضحية الآفاقي .