فصل
وصالح قريشا على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، على أن من جاءه
[ ص: 127 ] منهم مسلما رده إليهم ، ومن جاءهم من عنده لا يردونه إليه ، وكان اللفظ عاما في الرجال والنساء ، فنسخ الله ذلك في حق النساء ، وأبقاه في حق الرجال ، وأمر الله نبيه والمؤمنين أن يمتحنوا من جاءهم من النساء ، فإن علموها مؤمنة لم يردوها إلى الكفار ، وأمرهم برد مهرها إليهم لما فات على زوجها من منفعة بضعها ، وأمر المسلمين أن يردوا على من ارتدت امرأته إليهم مهرها إذا عاقبوا ، بأن يجب عليهم رد مهر المهاجرة ، فيردونه إلى من ارتدت امرأته ، ولا يردونها إلى زوجها المشرك ، فهذا هو العقاب ، وليس من العذاب في شيء ، وكان في هذا دليل على أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم ، وأنه متقوم بالمسمى الذي هو ما أنفق الزوج لا بمهر المثل ، وأن
أنكحة الكفار لها حكم الصحة ، لا يحكم عليها بالبطلان ، وأنه لا يجوز
رد المسلمة المهاجرة إلى الكفار ولو شرط ذلك ، وأن المسلمة لا يحل لها نكاح الكافر ، وأن المسلم له أن يتزوج المرأة المهاجرة إذا انقضت عدتها ، وآتاها مهرها ، وفي هذا أبين دلالة على خروج بضعها من ملك الزوج ، وانفساخ نكاحها منه بالهجرة والإسلام .
وفيه دليل على تحريم
نكاح المشركة على المسلم ، كما حرم
نكاح المسلمة على الكافر .
وهذه أحكام استفيدت من هاتين الآيتين ، وبعضها مجمع عليه ، وبعضها مختلف فيه ، وليس مع من ادعى نسخها حجة البتة فإن الشرط الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار في رد من جاءه مسلما إليهم ، إن كان مختصا بالرجال ، لم تدخل النساء فيه ، وإن كان عاما للرجال والنساء ، فالله سبحانه وتعالى خصص منه
[ ص: 128 ] رد النساء ونهاهم عن ردهن ، وأمرهم برد مهورهن ، وأن يردوا منها على من ارتدت امرأته إليهم من المسلمين المهر الذي أعطاها ، ثم أخبر أن ذلك حكمه الذي يحكم به بين عباده ، وأنه صادر عن علمه وحكمته ، ولم يأت عنه ما ينافي هذا الحكم ، ويكون بعده حتى يكون ناسخا .
ولما صالحهم على رد الرجال ، كان يمكنهم أن يأخذوا من أتى إليه منهم ، ولا يكرهه على العود ، ولا يأمره به ، وكان إذا قتل منهم ، أو أخذ مالا ، وقد فصل عن يده ، ولما يلحق بهم ، لم ينكر عليه ذلك ، ولم يضمنه لهم ، لأنه ليس تحت قهره ، ولا في قبضته ، ولا أمره بذلك ، ولم يقتض عقد الصلح الأمان على النفوس والأموال إلا عمن هو تحت قهره ، وفي قبضته ، كما (
ضمن لبني جذيمة ما أتلفه عليهم خالد من نفوسهم وأموالهم ) وأنكره ، وتبرأ منه .
ولما كان إصابته لهم عن نوع شبهة ، إذ لم يقولوا : أسلمنا ، وإنما قالوا : صبأنا ، فلم يكن إسلاما صريحا ، ضمنهم بنصف دياتهم لأجل التأويل والشبهة ، وأجراهم في ذلك مجرى
[ ص: 129 ] أهل الكتاب الذين قد عصموا نفوسهم وأموالهم بعقد الذمة ولم يدخلوا في الإسلام ، ولم يقتض عهد الصلح أن ينصرهم على من حاربهم ممن ليس في قبضة النبي صلى الله عليه وسلم وتحت قهره ، فكان في هذا دليل على أن المعاهدين إذا غزاهم قوم ليسوا تحت قهر الإمام وفي يده ، وإن كانوا من المسلمين أنه لا يجب على الإمام ردهم عنهم ، ولا منعهم من ذلك ، ولا ضمان ما أتلفوه عليهم .
وأخذ الأحكام المتعلقة بالحرب ، ومصالح الإسلام وأهله وأمره وأمور السياسات الشرعية من سيره ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال ، فهذا لون ، وتلك لون ، وبالله التوفيق .