[ ص: 22 ] فصل
وكان
علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع . . .
أحدها : بالأدوية الطبيعية .
والثاني : بالأدوية الإلهية .
والثالث بالمركب من الأمرين .
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم ، فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ، ثم نذكر الأدوية الإلهية ثم المركبة .
وهذا إنما نشير إليه إشارة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث هاديا ، وداعيا إلى الله ، وإلى جنته ، ومعرفا بالله ، ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها ، ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها ، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم ، وأخبار تخليق العالم ، وأمر المبدأ والمعاد ، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك .
وأما طب الأبدان : فجاء من تكميل شريعته ومقصودا لغيره بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه فإذا قدر على الاستغناء عنه ، كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح ، وحفظ صحتها ، ودفع أسقامها ، وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول ، وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع ، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدا ، وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة ، وبالله التوفيق .
[ ص: 23 ] ذكر القسم الأول : وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل
في هديه في
علاج الحمى
ثبت في " الصحيحين " : عن
نافع ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002463إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء ) .
وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ، ورأوه منافيا لدواء الحمى وعلاجها ، ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه فنقول : خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : عام لأهل الأرض ، وخاص ببعضهم ، فالأول : كعامة خطابه ، والثاني : كقوله : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002464لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا ) فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق
[ ص: 24 ] ولكن
لأهل المدينة وما على سمتها
كالشام وغيرها . وكذلك قوله (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002465ما بين المشرق والمغرب قبلة ) .
وإذا عرف هذا فخطابه في هذا الحديث خاص
بأهل الحجاز ، ما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس ، وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا ، فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب ، وتنبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن ، فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالأفعال الطبيعية .
وهي تنقسم إلى قسمين : عرضية : وهي الحادثة إما عن الورم ، أو الحركة ، أو إصابة حرارة الشمس ، أو القيظ الشديد ونحو ذلك .
ومرضية : وهي ثلاثة أنواع ، وهي لا تكون إلا في مادة أولى ، ثم منها يسخن جميع البدن . فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم ؛ لأنها في الغالب تزول في يوم ، ونهايتها ثلاثة أيام ، وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية ، وهي أربعة أصناف : صفراوية وسوداوية ، وبلغمية ، ودموية . وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية ، سميت حمى دق ، وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة .
وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء ، وكثيرا ما يكون حمى يوم ، وحمى العفن سببا لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها ، وسببا لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة .
وأما الرمد الحديث والمتقادم فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا
[ ص: 25 ] وتنفع من الفالج ، واللقوة ، والتشنج الامتلائي ، وكثير من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة .
وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى ، كما يستبشر المريض بالعافية ، فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير ، فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن ، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها فأخرجها فكانت سببا للشفاء .
وإذا عرف هذا فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية ، فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد وسقي الماء البارد المثلوج ، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر ، فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح ، فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها ، وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج .
ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات ، وقد اعترف فاضل الأطباء
جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها ، قال في المقالة العاشرة من كتاب " حيلة البرء " : ولو أن رجلا شابا حسن اللحم ، خصب البدن في وقت القيظ ، وفي وقت منتهى الحمى ، وليس في أحشائه ورم ، استحم بماء بارد أو سبح فيه لانتفع بذلك . قال : ونحن نأمر بذلك لا توقف .
[ ص: 26 ] وقال
الرازي في كتابه الكبير : إذا كانت القوة قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا ، وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار ، وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج ، فليؤذن فيه .
وقوله : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002466الحمى من فيح جهنم ) هو شدة لهبها ، وانتشارها ونظيره قوله : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002467شدة الحر من فيح جهنم ) ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ، ويعتبروا بها ، ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها ، كما أن الروح والفرح والسرور واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة ، وقدر ظهورها بأسباب توجبها .
والثاني : أن يكون المراد التشبيه ، فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم ، وشبه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار ، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها ، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها .
وقوله : " فأبردوها " ، روي بوجهين : بقطع الهمزة وفتحها ، رباعي : من أبرد الشيء إذا صيره باردا مثل : أسخنه إذا صيره سخنا .
والثاني : بهمزة الوصل مضمومة من برد الشيء يبرده ، وهو أفصح لغة واستعمالا ، والرباعي لغة رديئة عندهم ، قال :
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد [ ص: 27 ] هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فمن لنار على الأحشاء تتقد
وقوله " بالماء " فيه قولان . أحدهما : أنه كل ماء وهو الصحيح .
والثاني : أنه ماء زمزم ، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في " صحيحه " عن
nindex.php?page=showalam&ids=11969أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ، قال : كنت أجالس
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى ، فقال : أبردها عنك بماء زمزم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002468إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ، أو قال : بماء زمزم ) . وراوي هذا قد شك فيه ، ولو جزم به لكان أمرا
لأهل مكة بماء زمزم ، إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء .
ثم اختلف من قال : إنه على عمومه ، هل المراد به الصدقة بالماء ، أو استعماله ؟ على قولين . والصحيح أنه استعمال ، وأظن أن الذي حمل من قال : المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ، ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا ، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته ، وأما المراد به فاستعماله .
وقد ذكر
أبو نعيم وغيره من حديث
أنس يرفعه : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002469إذا حم أحدكم ، فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر ) .
[ ص: 28 ] وفي " سنن
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه " عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة يرفعه : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002470الحمى كير من كير جهنم ، فنحوها عنكم بالماء البارد ) .
وفي " المسند " وغيره من حديث
الحسن ، عن
سمرة يرفعه : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002471الحمى قطعة من النار ، فأبردوها عنكم بالماء البارد ) . (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002472وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل ) .
وفي " السنن " : من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبها رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002473لا تسبها فإنها تنفي الذنوب ، كما تنفي النار خبث الحديد ) .
لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة ، وتناول الأغذية والأدوية النافعة ، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن ونفي أخباثه وفضوله وتصفيته من مواده الرديئة ، وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفي جوهر الحديد ، وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان .
وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه وإخراجها خبائثه ، فأمر يعلمه أطباء القلوب ، ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن مرض القلب إذا
[ ص: 29 ] صار مأيوسا من برئه لم ينفع فيه هذا العلاج .
فالحمى تنفع البدن والقلب ، وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان ، وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها :
زارت مكفرة الذنوب وودعت تبا لها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي
فقلت : تبا له إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه ، ولو قال :
زارت مكفرة الذنوب لصبها أهلا بها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت : أن لا تقلعي
لكان أولى به ، ولأقلعت عنه ، فأقلعت عني سريعا . وقد روي في أثر لا أعرف حاله (
حمى يوم كفارة سنة ) ، وفيه قولان أحدهما : أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل ، وعدتها ثلاثمائة وستون مفصلا فتكفر عنه - بعدد كل مفصل - ذنوب يوم .
والثاني : أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة ، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002475من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما ) : إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد وعروقه وأعضائه أربعين يوما ، والله أعلم .
قال أبو هريرة : (
ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى ؛ لأنها تدخل في [ ص: 30 ] كل عضو مني ، وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر ) .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي في " جامعه " من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج يرفعه : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002477إذا أصابت أحدكم الحمى - وإن الحمى قطعة من النار - فليطفئها بالماء البارد ويستقبل نهرا جاريا ، فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل طلوع الشمس ، وليقل : بسم الله اللهم اشف عبدك ، وصدق رسولك ، وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام ، فإن برئ ، وإلا ففي خمس ، فإن لم يبرأ في خمس ، فسبع ، فإن لم يبرأ في سبع فتسع ، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله ) .
قلت : وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت ، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس ، ووفور القوى في ذلك الوقت لما أفادها النوم ، والسكون ، وبرد الهواء ، فتجتمع فيه قوة القوى ، وقوة الدواء ، وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية ، أو الغب الخالصة ، أعني التي لا ورم معها ، ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة ، فيطفئها بإذن الله ، لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث ، وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة كثيرا ، سيما في البلاد المذكورة لرقة أخلاط سكانها ، وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع .