فصل
وأما تدبير الحركة والسكون ، وهو
الرياضة ، فنذكر منها فصلا يعلم منه مطابقة هديه في ذلك لأكمل أنواعه وأحمدها وأصوبها ، فنقول :
من المعلوم افتقار البدن في بقائه إلى الغذاء والشراب ، ولا يصير الغذاء بجملته جزءا من البدن ، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما ، إذا كثرت على ممر الزمان اجتمع منها شيء له كمية وكيفية ، فيضر بكميته بأن يسد ويثقل البدن ، ويوجب أمراض الاحتباس ، وإن استفرغ تأذى البدن بالأدوية ، لأن أكثرها سمية ، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفع به ، ويضر بكيفيته بأن يسخن بنفسه ، أو بالعفن ، أو يبرد بنفسه ، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه .
وسدد الفضلات لا محالة ضارة تركت ، أو استفرغت ، والحركة أقوى
[ ص: 226 ] الأسباب في منع تولدها ، فإنها تسخن الأعضاء ، وتسيل فضلاتها ، فلا تجتمع على طول الزمان ، وتعود البدن الخفة والنشاط ، وتجعله قابلا للغذاء ، وتصلب المفاصل ، وتقوي الأوتار والرباطات ، وتؤمن جميع الأمراض المادية وأكثر الأمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته ، وكان باقي التدبير صوابا .
ووقت الرياضة بعد انحدار الغذاء ، وكمال الهضم ، والرياضة المعتدلة هي التي تحمر فيها البشرة ، وتربو ويتندى بها البدن ، وأما التي يلزمها سيلان العرق فمفرطة ، وأي عضو كثرت رياضته قوي ، وخصوصا على نوع تلك الرياضة ، بل كل قوة فهذا شأنها ، فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ، ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة ، ولكل عضو رياضة تخصه، فللصدر القراءة ، فليبتدئ فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج ، ورياضة السمع بسمع الأصوات والكلام بالتدريج ، فينتقل من الأخف إلى الأثقل ، وكذلك رياضة اللسان في الكلام ، وكذلك رياضة البصر ، وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئا فشيئا .
وأما ركوب الخيل ورمي النشاب ، والصراع ، والمسابقة على الأقدام ، فرياضة للبدن كله ، وهي قالعة لأمراض مزمنة ، كالجذام والاستسقاء ، والقولنج .
ورياضة النفوس بالتعلم والتأدب ، والفرح والسرور ، والصبر والثبات ، والإقدام والسماحة ، وفعل الخير ، ونحو ذلك مما ترتاض به النفوس ، ومن أعظم رياضتها : الصبر والحب ، والشجاعة والإحسان ، فلا تزال ترتاض بذلك شيئا فشيئا حتى تصير لها هذه الصفات هيئات راسخة ، وملكات ثابتة .
وأنت إذا تأملت هديه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، وجدته أكمل هدي حافظ للصحة والقوى ، ونافع في المعاش والمعاد .
ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن ، وإذابة أخلاطه وفضلاته ما هو من أنفع شيء له سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان ، وسعادة
[ ص: 227 ] الدنيا والآخرة ، وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة ، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة ، ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب ، كما في " الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002782يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة : عليك ليل طويل ، فارقد ، فإن هو استيقظ ، فذكر الله انحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ثانية ، فإن صلى انحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) .
وفي الصوم الشرعي من أسباب حفظ الصحة ورياضة البدن والنفس ما لا يدفعه صحيح الفطرة .
وأما الجهاد وما فيه من الحركات الكلية التي هي من أعظم أسباب القوة ، وحفظ الصحة ، وصلابة القلب والبدن ، ودفع فضلاتهما ، وزوال الهم والغم والحزن ، فأمر إنما يعرفه من له منه نصيب .
وكذلك الحج وفعل المناسك ، وكذلك المسابقة على الخيل وبالنصال ، والمشي في الحوائج ، وإلى الإخوان ، وقضاء حقوقهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييع جنائزهم ، والمشي إلى المساجد للجمعات والجماعات ، وحركة الوضوء ، والاغتسال ، وغير ذلك .
وهذا أقل ما فيه الرياضة المعينة على حفظ الصحة ، ودفع الفضلات ، وأما ما شرع له من التوصل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ، ودفع شرورهما ، فأمر وراء ذلك .
فعلمت أن هديه فوق كل هدي في طب الأبدان والقلوب ، وحفظ صحتها ، ودفع أسقامهما ، ولا مزيد على ذلك لمن قد أحضر رشده ، وبالله التوفيق .