وأما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء ، كأحد القولين في مذهب
مالك ، وإحدى الروايتين عن
أحمد ، فهو قول مرجوح .
[ ص: 350 ] ونحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه ، وسنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة .
وإذا قال
أحمد أو غيره من العلماء : إن
الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه ، لأنه لا استثناء فيه - لزم من هذا القول : أنه لا استثناء في الحلف بهما . وأما من فرق من أصحاب
أحمد فقال : يصح في الحلف بهما الاستثناء ، ولا يصح فيه الكفارة - فهذا الفرق ما أعلمه منصوصا عليه عن
أحمد ، ولكنهم معذورون فيه من قوله ؛ حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين [ كما نص في الاستثناء في الحلف بهما على روايتين ] .
لكن هذا القول لازم على إحدى الروايتين عنه التي ينصرونها ، ومن سوى الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها ، ولو تفطن لكان : إما أن يلتزمها أو لا يلتزمها ، بل يرجع عن الملزوم أو لا يرجع عنه ، ويعتقد أنها غير لوازم .
والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه : فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم ، لا بنفي ولا إثبات ، أو نص على نفيه . وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص . فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم - وخرجوا عليه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة ، مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين ، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر ، كما علل
أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء ، وعنه في الاستثناء روايتان - فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم [ فيه ] بنفي ولا إثبات : هل يسمى ذلك مذهبا له ، أو لا يسمى ؟
[ ص: 351 ] ولأصحابنا فيه خلاف مشهور .
فالأثرم والخرقي وغيرهما : يجعلونه مذهبا له ،
والخلال وصاحبه وغيرهما : لا يجعلونه مذهبا له .
والتحقيق : أنه قياس قوله : [ ولازم قوله ] ، فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه ، ولا هو أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله ، بل هو منزلة بين المنزلتين . هذا حيث أمكن أن لا يلتزمه .
وأيضا فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرا به ، [ أو ملزما له ] إذا أوقعه صاحبه ، وكذلك العتق ، وكذلك النذر .
وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد ، أو تحريم أشياء عليه . والوجوب والتحريم : إنما يلزم العبد إذا قصده أو قصد سببه ، فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شيء بالاتفاق . ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور ، كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة ؛ لأن مقصوده إنما هو دفع المكروه عنه ، لم يقصد حكمها ، ولا قصد التكلم بها ابتداء .
فكذلك
الحالف إذا قال : إن لم أفعل كذا فعلي الحج أو الطلاق ، ليس قصده التزام حج ولا طلاق ، ولا تكلم بما يوجبه ابتداء ، وإنما قصده الحض على ذلك الفعل ، أو منع نفسه منه ، كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه ، ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع : إن فعلت كذا فهذا لي لازم ، أو هذا علي حرام ، لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به ، فقصده منعهما جميعا لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه . وإذا لم يكن قاصدا للحكم ولا لسببه ، وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم .
[ ص: 352 ] وأيضا : فإن
اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة ، لم يبلغني أنه كان يحلف به على عهد قدماء الصحابة ، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها
nindex.php?page=showalam&ids=14078الحجاج بن يوسف . وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال ، والطلاق والعتاق . وإني لم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق ، وإنما الذي بلغنا عنهم : الجواب في الحلف بالعتق ، كما تقدم .
ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشارا عظيما ، ثم لما اعتقد من اعتقد : أن الطلاق يقع بها لا محالة ، صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على
بني إسرائيل ، ونشأ عن ذلك خمسة أنواع من المفاسد
والحيل في الأيمان ، حتى اتخذوا آيات الله هزوا .
وذلك : أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لا بد لهم من فعلها ، إما شرعا وإما طبعا [ وعلى فعل أمور يمتنع فعلها شرعا أو طبعا ] وغالب ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب ، ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال
اليهود . وقد قيل : إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره ، لئلا يتسارع الناس إلى الطلاق ، لما فيه من المفسدة ، فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة ، وهم محتاجون إلى فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل ، فقد قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل ، أخذت عن الكوفيين وغيرهم :
الحيلة الأولى في المحلوف عليه : فيتأول لهم خلاف ما قصدوه وخلاف ما يدل على الكلام في عرف الناس وعاداتهم . وهذا هو
[ ص: 353 ] الذي [ وضعه ] بعض المتكلمين في الفقه ، وسموه باب المعاياة ، وسموه باب الحيل في الأيمان . وأكثره مما يعلم بالاضطرار من الدين أنه لا يسوغ في الدين ، ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه . ولهذا كان الأئمة -
كأحمد وغيره - يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان .