صفحة جزء
وأما ما يرويه طوائف من العامة : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " رأى رجلا ينقر في صلاته فنهاه عن ذلك ، فقال : لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار ، فسكت عنه عمر " ، فهذا لا أصل له ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغني ، لا في الصحيح ولا في الضعيف ، والكذب ظاهر عليه فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك وهم في الدرك الأسفل من النار .

وأيضا : فعن أبي عبد الله الأشعري الشامي قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، ثم جلس في طائفة منهم ، فدخل رجل فقام يصلي ، فجعل يركع وينقر في سجوده ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، فقال : ترون هذا ؟ لو مات مات على غير ملة محمد ، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرمة ، إنما مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه وينقر في سجوده ، كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين لا تغنيان عنه شيئا ، فأسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار ، وأتموا الركوع والسجود ، قال أبو صالح : فقلت لأبي عبد الله الأشعري : من حدثك بهذا الحديث ؟ قال : أمراء الأجناد : خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وشرحبيل بن حسنة ، ويزيد بن أبي سفيان ، كل هؤلاء يقولون : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بكماله ، وروى ابن ماجه بعضه .

[ ص: 61 ] وأيضا : ففي صحيح البخاري [ عن أبي وائل عن زيد بن وهب ] : " أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده ، فلما قضى صلاته دعاه وقال له حذيفة : ما صليت ، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم . ولفظ أبي وائل : " ما صليت " ، وأحسبه قال : " لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم " .

وهذا الذي لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة ، أو ترك الاعتدال أو ترك [ كليهما ] فإنه لا بد أن يكون قد ترك بعض ذلك ، إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف ، والهبوط من الركوع إلى السجود ، [ لا يمكن ] أن ينقص منه مع الإتيان بما قد يقال : إنه ركوع أو سجود ، وهذا الرجل كان يأتي بما قد يقال له ركوع وسجود ، لكنه لم يتمه ، ومع هذا قال له حذيفة : " ما صليت " ، فنفى عنه الصلاة ، ثم قال : " لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم " و " على غير السنة " ، وكلاهما المراد به هنا : الدين والشريعة ، ليس المراد به فعل المستحبات ، فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد ، فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من المستحبات ؛ ولأن لفظ : " الفطرة ، والسنة " في كلامهم هو : الدين والشريعة ، وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ "السنة " يراد [ ص: 62 ] به ما ليس بفرض ، إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله فرض عليكم صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ، فهي تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات ، كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ، وإن هذه الصلوات في جماعة من سنن الهدى ، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق " ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ .

ولأن الله سبحانه وتعالى أمر في كتابه بإقامة الصلاة ، وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها ، فقال تعالى في غير موضع : ( وأقيموا الصلاة ) ، وإقامتها تتضمن إتمامها بحسب الإمكان ، كما سيأتي في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم من بعد ظهري " ، وفي رواية : " أتموا الركوع والسجود " ، وسيأتي تقرير دلالة ذلك .

والدليل على ذلك من القرآن أنه سبحانه وتعالى قال : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) [ النساء : 101 ] ، فأباح الله القصر من عددها والقصر من [ ص: 63 ] صفتها ، ولهذا علقه بشرطين : السفر والخوف ، فالسفر : يبيح قصر العدد فقط ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه ، التي اتفقت الأمة على نقلها عنه " أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين " ولم يصلها في السفر أربعا قط ، ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما ، لا في الحج ولا في العمرة ولا في الجهاد .

والخوف يبيح قصر صفتها كما قال الله تعالى في تمام الكلام : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) [ النساء : 102 ] ، فذكر صلاة الخوف ، وهي صلاة ذات الرقاع ، إذ كان العدو في جهة القبلة ، وكان فيها : " أنهم كانوا يصلون خلفه ، فإذا قام إلى الثانية فارقوه وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية ، ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم " كما قال : ( فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ) فجعل السجود لهم خاصة ، فعلم أنهم يفعلونه منفردين ثم قال : ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ) فعلم أنهم يفعلونه [ معه مأمومين ] .

وفي هذه الصلاة تفريق المأمومين ، ومفارقة الأولين للإمام ، وقيام الآخرين قبل سلام الإمام ، ويتمون لأنفسهم ركعة .

ثم قال تعالى : ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) [ النساء : 103 ] ، فأمرهم بعد الأمن بإقامة [ ص: 64 ] الصلاة ، وذلك يتضمن الإتمام وترك القصر منها الذي أباحه الخوف والسفر ، فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان .

وأما قوله في صلاة الخوف : ( فأقمت لهم الصلاة ) ، فتلك إقامة وإتمام في حال الخوف ، كما أن الركعتين في السفر إقامة وإتمام ، كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم " ، وهذا يبين ما رواه مسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : " إقصار الناس الصلاة اليوم ، وإنما قال الله عز وجل : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) وقد ذهب ذلك اليوم ؟ فقال : عجبت مما عجبت منه ، فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن ، فبينت السنة أن القصر نوعان ، كل نوع له شرط .

وثبتت السنة أن الصلاة مشروعة في السفر تامة ؛ لأنه بذلك أمر الناس ، ليست مقصورة في الأجر والثواب ، وإن كانت مقصورة في الصفة والعمل ؛ إذ المصلي يؤمر بالإطالة تارة ويؤمر بالاقتصار تارة .

وأيضا فإن الله تعالى قال : ( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) [ النساء : 103 ]

[ ص: 65 ] والموقوت قد فسره السلف بالمفروض وفسروه بما له وقت ، والمفروض هو المقدر المحدد ؛ فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة ، وذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة ، وذلك في زمانها وأفعالها ، وكما أن زمانها محدود ، فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة ، وهو يتناول تقدير عددها بأن جعله خمسا ، وجعل بعضها أربعا في الحضر واثنتين في السفر ، وبعضها ثلاثا ، وبعضها اثنتين في الحضر والسفر ، وتقدير عملها أيضا ؛ ولهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم والتأخير في الزمان ، كما يجوز أيضا القصر من عددها ومن صفتها بحسب ما جاءت به الشريعة ، وذلك أيضا مقدر عند العذر كما هو مقدر عند غير العذر ؛ ولهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل أو صلاة الليل إلى النهار ، وصلاتي النهار : الظهر والعصر ، وصلاتي الليل : المغرب والعشاء ، وكذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها وصفتها ، وهو موقوت محدود ، ولا بد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء ، فالقيام محدود بالانتصاب بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحني الراكع باختياره ، لم يكن قد أتى بحد القيام .

ومن المعلوم أن ذكر القيام - الذي هو القراءة - أفضل من ذكر الركوع والسجود ، ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام ؛ ولهذا كان عبادة بنفسه ، ولم يصح في شرعنا إلا لله بوجه من الوجوه ، وغير ذلك من الأدلة المذكورة في غير هذا الموضع .

وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة [ ص: 66 ] بقدر التمكن منها ، فالساجد عليه أن يصل إلى الأرض ، وهو غاية التمكن ليس له غاية دون ذلك إلا لعذر ، وهو من حين انحنائه أخذ في السجود سواء سجد من قيام أو من قعود ، فينبغي أن يكون ابتداء السجود مقدرا بذلك بحيث يسجد من قيام أو قعود ، لا يكون سجوده من انحناء ، فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان ، ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال في الركوع وبين السجدتين .

وأيضا : ففي ذلك إتمام الركوع والسجود

التالي السابق


الخدمات العلمية