صفحة جزء
وأيضا : فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر وذلك هو الطمأنينة ، فإن من نقر نقر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا ؛ فإن قدر الشيء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده ، ولهذا يقال للشيء الدائم : ليس له قدر ؛ فإن القدر لا يكون لأدنى حركة بل لحركة ذات امتداد

وأيضا : فإن الله عز وجل أمرنا بإقامتها ، والإقامة : أن تجعل قائمة ، والشيء القائم : هو المستقيم المعتدل ، فلا بد أن تكون أفعال الصلاة مستقرة معتدلة ، وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها ، وهذا يتضمن الطمأنينة ، فإن من نقر نقر الغراب لم يقم السجود ، ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر ، وكذلك الراكع

يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سووا صفوفكم ؛ فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ، وأخرجاه من حديث عبد العزيز بن [ ص: 67 ] صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتموا الصفوف فإني أراكم من خلف ظهري " وفي لفظ : " أقيموا الصفوف " وروى البخاري من حديث حميد ، عن أنس قال : " أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أقيموا صفوفكم وتراصوا ؛ فإني أراكم من وراء ظهري ، وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه "

فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا ، لم يكونوا مصطفين ، ولكانوا يؤمرون بالإعادة ، وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة ، فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ؟ .

ويدل على ذلك - وهو دليل مستقل في المسألة - ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي - وفي رواية : من بعد ظهري - إذا ركعتم وسجدتم " ، وفي رواية للبخاري عن همام ، عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أتموا الركوع والسجود فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم " ، ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي وابن [ ص: 68 ] أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتموا الركوع والسجود " - ولفظ ابن أبي عروبة - " أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم " وذكره

فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامها كما في اللفظ الآخر ، وأيضا [فأمره] لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما ؛ إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة ، بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضا الاعتدال فيهما وإتمام طرفيهما ، وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه ، ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الانصراف قبله

وأيضا فقوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) [ البقرة ] أمر بالقنوت في القيام لله ، والقنوت : دوام الطاعة لله عز وجل سواء كان في حال الانتصاب أو في حال السجود ، كما قال تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) [ النساء : 34 ] وقال : ( ومن يقنت منكن لله ورسوله ) [ الأحزاب : 31 ] وقال : ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) [ الروم ] .

فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) إما أن يكون أمرا لإقامة الصلاة مطلقا كما في قوله : ( كونوا قوامين بالقسط ) [ ص: 69 ] [ النساء : 135 ] فيعم أفعالها ، ويقتضي الدوام في أفعالها ، وإما أن يكون المراد به : القيام المخالف للقعود ، فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ، ويقتضي الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء ، كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه .

وإذا ثبت وجود هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى

ويقوي الوجه الأول : حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال : " كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة ، فنزلت ( وقوموا لله قانتين ) قال : فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام " حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة ، فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة ، ودل الأمر بالقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس ؛ لأن القنوت هو دوام الطاعة ، فالمشتغل بمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة الله وطاعته ، فلا يكون مداوما على طاعته ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد : " إن في الصلاة لشغلا " فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلي عن مخاطبة الناس ، وهذا هو القنوت فيها ، وهو دوام الطاعة ؛ ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي لما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح ؛ لأن ذلك لا يشغله عنها ، ولا ينافي القنوت فيها

[ ص: 70 ] وأيضا فإنه سبحانه قال : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ) [ السجدة ] فأخبر أنه لا يكون مؤمنا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات وسبح بحمد ربه .

ومعلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات ، ولذلك وجب السجود مع ذلك ، وقد أوجب خرورهم سجدا وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم ، وذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود ، وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة ؛ ولهذا قال طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم : إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم .

والثاني : أن الخرور هو السقوط والوقوع ، وهذا إنما يقال فيما يثبت ويسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض ؛ ولهذا قال الله : ( فإذا وجبت جنوبها ) والوجوب في الأصل هو الثبوت والاستقرار .

وأيضا : فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : لما نزلت ( فسبح باسم ربك العظيم ) [ الواقعة ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت ( سبح اسم ربك الأعلى ) قال : اجعلوها في سجودكم " رواه أبو داود ، وابن ماجه .

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعل هذين التسبيحين في الركوع والسجود ، وأمره على الوجوب وذلك يقتضي وجوب ركوع وسجود تبعا لهذا التسبيح ، وذلك هو الطمأنينة .

[ ص: 71 ] ثم إن من الفقهاء من قد يقول : التسبيح ليس بواجب ، وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة ؛ فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعا ، فإذا دل دليل على عدم وجوب القول لم يمنع وجوب الفعل

وأما من يقول بوجوب التسبيح فيستدل لذلك بقوله تعالى : ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) [ ق : 39 ] وهذا أمر بالصلاة كلها ، كما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) " .

وإذا كان الله عز وجل قد سمى الصلاة تسبيحا فقد دل ذلك على وجوب التسبيح ، كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى : قم الليل إلا قليلا [ المزمل ] دل على وجوب القيام ، وكذلك لما سماها قرآنا في قوله تعالى : ( وقرآن الفجر ) [ الإسراء : 78 ] دل على وجوب القرآن فيها ، ولما سماها ركوعا وسجودا في مواضع دل على وجوب الركوع والسجود فيها .

وذلك : أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها ، فإذا وجدت الصلاة وجدت هذه الأفعال ، فتكون من الأبعاض اللازمة ، كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له [ ص: 72 ] فيسمونه رقبة ورأسا ووجها ونحو ذلك ، كما في قوله تعالى : ( فتحرير رقبة ) [ المجادلة : 3 ] ، ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرا بالصلاة ، فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه ولا على ما يستلزم معناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية