[ ص: 215 ] بيان
الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب :
اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل ؛ والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقا أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين ، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين ، بل ينتفع به فيهما . ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك - فارقت الحسد لا محالة .
أما كونه ضررا عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى ، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده ، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته ، فاستنكرت ذلك واستبشعته ، وهذه جناية في حدقة التوحيد ، وقذى في عين الإيمان ، وناهيك بهما جناية على الدين ، وقد انضاف إلى ذلك أنك فارقت أولياءه وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى ، وشاركت إبليس والكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم ، وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب .
وأما كونه ضررا في الدنيا ، فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا ، أو تتعذب به ، ولا تزال في كمد وغم ، إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم ، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها ، وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم ، فتبقى مغموما ضيق الصدر ، فقد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك ، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقدا ، ولا تزول النعمة عن المحسود بحسدك ، ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة - إن كنت عاقلا - أن تحذر من الحسد ، لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع ، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة ؟ فما أعجب من يتعرض لسخط الله من غير نفع يناله ، بل مع ضرر يحتمله ، وألم يقاسيه ، فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة . وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح ؛ لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك . وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح ، أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك ، لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه ، وهتك ستره ، وذكر مساوئه ، فهذه هدايا تهديها إليه ، إذ تهدي إليه حسناتك ، حتى تلقاه يوم القيامة مفلسا محروما كما حرمت في الدنيا عن النعمة .
فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك ؛ إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة ، وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة ، وصرت مذموما عند الخالق والخلائق ، شقيا في الحال والمآل ، ونعمة المحسود دائمة ، شئت أم أبيت باقية . ومن تفكر بهذا بذهن صاف وقلب حاضر ، انطفأت نار الحسد من قلبه .
وأما العمل النافع فيه فهو أن يكلف نفسه نقيض ما يتقاضاه الحسد ، وذلك بالتواضع للمحسود ، والثناء ، والمدح ، وإظهار السرور بالنعمة ، فتعود القلوب إلى التآلف والتحاب ، وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض . فهذه هي أدوية الحسد ، وهي نافعة جدا ، إلا أنها مرة على القلوب جدا ، ولكن النفع في الدواء المر ، فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء ، وإنما تهون مرارة هذا الدواء - أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم بالمدح والثناء - بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها ، وقوة الرغبة في ثواب الرضاء بقضاء الله تعالى .