بيان
الحد الذي يباح فيه الجاه :
اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا ، ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ، ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها أي: القدرة على التصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ، فحكم الجاه حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا ، وينقطع بالموت ، والدنيا مزرعة الآخرة ، فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة ،
فحب الجاه والمال لأجل التوسل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم ، وحبهما لأعيانهما فيما
[ ص: 229 ] يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ، ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية وما لم يتوصل إلى اكتسابه بكذب وخداع وارتكاب محظور ، وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة ، فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين ، وهو حرام .
والقول الفصل في
طلب المنزلة والجاه في قلوب الناس أن يقال : يطلب ذلك على ثلاثة أوجه : وجهان مباحان ووجه محظور :
أما الوجه المحظور : فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة هو منفك عنها مثل العلم والورع والنسب ، فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع ، وهو لا يكون كذلك فهذا حرام ; لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة .
وأما أحد المباحين : فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول "
يوسف " صلى الله عليه وسلم في ما أخبر عنه الرب تعالى : (
اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) [ يوسف : 55 ] فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما ، وكان محتاجا إليه ، وكان صادقا فيه .
والثاني : أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه حتى لا يعلم فلا تزول منزلته به ، فهذا أيضا مباح ; لأن
حفظ الستر على القبائح جائز ، ولا يجوز هتك الستر ، كالذي يخفي عمن يريد استئجاره أنه يشرب الخمر ، ولا يلقي إليه أنه ورع فإن قوله : إني ورع تلبيس وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع ، بل يمنع العلم بالشرب .
ومن جملة المحظورات
تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده ، فإن ذلك رياء ، وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله ، وهو مراء بما يفعله فكيف يكون مخلصا ؟ فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية ، وذلك يجري مجرى اكتساب المال بالحرام من غير فرق ، وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع ، فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال .