بيان الرخصة في
قصد إظهار الطاعات :
اعلم أن في إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء ، وفي الإظهار فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء ، قال "
الحسن " : " إن السر أحرز العملين " .
[ ص: 240 ] ولكن في الإظهار أيضا فائدة ، ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية فقال : (
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) [ البقرة : 271 ] . والإظهار قسمان :
أحدهما : في نفس العمل ، والآخر : بالتحدث بما عمل .
القسم الأول :
إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها ، كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004618من سن سنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه " وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيره ، ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب ، فالسر أفضل من علانية لا قدوة فيها ، أما العلانية للقدوة فأفضل من السر ، ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء ، وقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004619له أجرها وأجر من عمل بها " ، ولكن على من يظهر العمل وظيفتان :
إحداهما : أن يظهره حيث يعلم أن يقتدى به أو يظن ظنا ، ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه ، وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق ، وربما يقتدي به أهل محلته ، وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة ، فغير العالم إذا أظهر بعض الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا به فليس له الإظهار من غير فائدة ، وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به .
الثانية : أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه إلى الإظهار بعذر الاقتداء وإنما شهوته التجمل بالعمل ، وبكونه مقتدى به ، فليحذر العبد خدع النفس ، فإن النفس خدوع ، والشيطان مترصد ، وحب الجاه على القلب غالب .
وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات ، فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئا ، والسلامة في الإخفاء ، وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا ، فالحذر من الإظهار أولى بنا وبجميع الضعفاء .
القسم الثاني : أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ ، وحكمه حكم إظهار العمل نفسه ، والخطر في هذا أشد ; لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان ، وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة ، وللنفس لذة في إظهار الدعاوى عظيمة إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد العبادة الماضية بعد الفراغ منها فهو من هذا الوجه أهون ، والحكم فيه أن من قوي قلبه وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم وذكر ذلك عند من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز ، بل مندوب إليه إن صفت النية وسلمت عن جميع الآفات ; لأنه ترغيب في الخير ، والترغيب في الخير خير ، وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من السلف الأقوياء .