بيان
حقيقة الكبر وآفته :
اعلم أن الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر ، فالباطن هو خلق في النفس ، والظاهر هو أعمال تصدر من الجوارح ، وتلك الأعمال أكثر من أن تحصى ، وآفته عظيمة وغائلته هائلة ، وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004627لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر " وإنما صار حجابا دون
[ ص: 244 ] الجنة ; لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها ، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة ، والكبر وعزة النفس يغلق تلك الأبواب كلها ; لأن المتكبر لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ، ولا يقدر على التواضع ، وهو رأس أخلاق المتقين ، ولا يقدر على ترك الحقد ، ولا يقدر أن يدوم على الصدق ، ولا يقدر على ترك الغضب ، ولا يقدر على كظم الغيظ ، ولا يقدر على ترك الحسد ، ولا يقدر على النصح اللطيف ، ولا يقدر على قبول النصح ، ولا يسلم من الإزراء بالناس ومن اغتيابهم .
وبالجملة فما من خلق ذميم إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ به عزه ، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزه ، فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه .
وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له ، وفيه وردت الآيات التي فيها ذم الكبر والمتكبرين .
ومنشؤه استحقار الغير وازدراؤه واستصغاره ، ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بهاتين الآفتين بقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004628الكبر بطر الحق وغمص الخلق " أي ازدراؤهم واستحقارهم وهم عباد الله أمثاله أو خير منه وهذه الآفة الأولى ، وبطر الحق هو رده وهي الآفة الثانية .
فكل من
رأى أنه خير من أخيه واحتقر أخاه وازدراه ونظر إليه بعين الاستصغار أو رد الحق ، وهو يعرفه فقد تكبر ونازع الله في حقه .
ووجه الآفة الأولى أن الكبر والعز والعظمة لا تليق إلا بالملك القادر ، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر واستعظام النفس واستحقار الغير ؟ فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله ، ومثاله أن يأخذ الغلام تاج الملك فيضعه على رأسه ويجلس على سريره فما أعظم استحقاقه للمقت ، وما أعظم تهدفه للخزي والنكال ، وما أشد استجراءه على مولاه ، وما أقبح ما تعاطاه .
فالخلق كلهم عباد الله وله العظمة والكبرياء عليهم ، فمن تكبر على عبد من عباد الله فقد نازع الله في حقه .
ووجه الآفة الثانية أنه من
سمع الحق من عبد من عباد الله واستنكف عن قبوله وتشمر لجحده فما ذاك إلا للترفع والتعاظم واستحقار غيره حتى تأبى أن ينقاد له ، وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين إذ وصفهم الله تعالى فقال : (
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [ فصلت : 26 ] .
فكل من يتضح له الحق على لسان أحد ويأنف من قبوله ، أو يناظر للغلبة والإفحام لا ليغتنم الحق إذا ظفر به فقد شاركهم في هذا الخلق ، وكذلك من تحمله الأنفة على عدم قبول الوعظ كما قال تعالى : (
وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ) [ البقرة : 206 ] .