بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه :
اعلم أن مجموع ما به ثمانية أقسام :
الأول : أن
يعجب ببدنه في جماله وهيئته وقوته وحسن صوته ، وينسى أنه نعمة من الله تعالى ، وهو بعرضة الزوال في كل حال . وعلاج التفكر في أقذار باطنه في أول أمره وفي آخره ، وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة كيف تمزقت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع .
[ ص: 255 ] الثاني :
البطش والقوة كما حكي عن قوم
عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم : (
من أشد منا قوة ) [ فصلت : 15 ] وعلاجه أن يعلم أن حمى يوم تضعف قوته ، وأنه إذا أعجب بها ربما سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه .
الثالث :
العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا ، وثمرته الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه ، ويخرج إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم إعراضا عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل .
وعلاجه أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه ، فلا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره ، ويستقصر علمه وعقله .
وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا وإن اتسع علمه ، وأن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرف فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى ؟ وأن يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم ، فيحذر أن يكون منهم ، وهو لا يدري ، فإن القاصر العقل لا يعلم قصور عقله . فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه ، ومن أعدائه لا من أصدقائه ، فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجبا ، وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ، ولا يفطن لجهل نفسه فيزداد به عجبا .
الرابع :
العجب بالنسب الشريف حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة آبائه وأنه مغفور له . وعلاجه أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل ، وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب ، بل الخوف ومذمة النفس ، ولقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة لا بالنسب ، فليشرف بما شرفوا به ، ولذلك قال تعالى : (
ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) [ الحجرات : 13 ] أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد ، ثم ذكر فائدة النسب فقال : (
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) [ الحجرات : 13 ] ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال : (
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004637إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية " أي كبرها : " كلكم بنو آدم وآدم من تراب " .
ولما نزل قوله تعالى : (
وأنذر عشيرتك الأقربين ) [ الشعراء : 214 ] ناداهم بطنا بعد بطن حتى قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004638يا فاطمة بنت محمد ، يا nindex.php?page=showalam&ids=252صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اعملا لأنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئا " فبين أنهم إذا مالوا إلى الدنيا لم ينفعهم نسب
قريش . فمن عرف هذه الأمور ، وعلم أن شرفه بقدر تقواه ، وقد كان من عادة آبائه التواضع اقتدى بهم في التقوى والتواضع ، وإلا كان طاعنا في نسب نفسه بلسان حاله مهما انتمى إليهم ولم يشبههم في التواضع والتقوى والخوف والإشفاق .
[ ص: 256 ] الخامس :
العجب بنسب الأمراء وأعوانهم دون نسب العلم والدين ، وهذا غاية الجهل . وعلاجه أن يتفكر في منكراتهم وما جروا على الناس من المحظورات فيشكر الله أن عصمه من تبعاتهم .
السادس :
العجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والعشيرة والأقارب كما قال الكفار : (
نحن أكثر أموالا وأولادا ) [ سبأ : 35 ] وكما قال المؤمنون يوم
حنين : " لا نغلب اليوم من قلة " . وعلاجه ما ذكرناه في الكبر ، وهو أن يتفكر في ضعفه وضعفهم ، وأن كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ، ولا نفعا ، ثم كيف يعجب وهم سيفارقونه إذا مات ودفن وحده ذليلا مهانا ، ويسلمونه إلى البلى والحيات والعقارب ، ولا يغنون عنه شيئا . ويهربون منه يوم القيامة : (
يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ) [ عبس : 34 36 ] فكيف تعجب بمن يفارقك في أشد أحوالك ويهرب منك ، وكيف تتكل على من لا ينفعك وتنسى نعم من يملك نفعك وضرك ؟ .
السابع :
العجب بالمال كما أخبر تعالى عن ذاك الكافر إذ قال : (
أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) [ الكهف : 34 ] وعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه ، وإلى أن في
اليهود من يزيد عليه في المال ، وينظر إلى فضيلة الفقراء وخفة حسابهم . وكيف يتصور من المؤمن أن يعجب بماله ، ولا يخلو من تقصير في القيام بحقوق المال من أخذه من حله ووضعه في حقه ، وأن مآل المتهور في الجمع والمنع إلى الخزي والبوار .
الثامن :
العجب بالرأي الخطأ ، قال تعالى : (
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) [ فاطر : 8 ] وقال تعالى : (
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) [ الكهف : 104 ] وقد أخبر رسول الله صلوات الله عليه أن بذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقا وكل معجب برأيه ، و (
كل حزب بما لديهم فرحون ) [ المؤمنون : 53 والروم : 32 ] .
وعلاجه أن يتهم رأيه أبدا فلا يغتر به إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشرط الأدلة ، ولن يعرف الإنسان أدلة الشرع والعقل وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة ، وعقل ثاقب ، وجد وتشمر في الطلب ، وممارسة للكتاب والسنة ، ومجالسة لأهل العلم طول العمر ، ومدارسة للعلوم ، ومع ذلك فلا يؤمن عليه الغلط في بعض الأمور ، والصواب لمن لم يتفرغ لاستغراق عمره في العلم أن لا يخوض في المذاهب ، بل يشتغل بالتقوى واجتناب المعاصي ، وأداء الطاعات والشفقة على المسلمين .
نسأله تعالى العصمة من الضلال ونعوذ به من الاغترار بخيالات الجهال .