دواء التوبة
وطريق العلاج لحل عقدة الإصرار
اعلم أن شفاء التوبة لا يحصل إلا بالدواء ، وكل داء حصل من سبب فدواؤه إبطاله ، ولا يبطل الشيء إلا بضده ، ولا سبب للإصرار إلا الغفلة والشهوة ، ولا يضاد الغفلة إلا العلم ، ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة .
وأما الأنواع النافعة في حل عقدة الإصرار وحمل الناس على ترك الذنوب فهي أربعة أنواع :
الأول : أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين ، وكذا ما ورد من الأخبار والآثار في ذم المعاصي ومدح التائبين .
الثاني : حكايات الأنبياء والسلف الصالحين وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم ، فذلك شديد الوقع ظاهر النفع في قلوب الخلق ، مثل أحوال
آدم - صلى الله عليه وسلم - في عصيانه وما لقيه من الإخراج من الجنة ، ونحوها ، فإنه لم يرد بها القرآن والأخبار ورود الأسمار بل الغرض بها الاعتبار والاستبصار لتعلم أن الأنبياء - عليهم السلام - لم يتجاوز عنهم في الذنوب الصغار فكيف يتجاوز عن غيرهم في الذنوب الكبار ، فهذا أيضا مما ينبغي أن يكثر جنسه على أسماع المصرين فإنه نافع في تحريك دواعي التوبة .
الثالث : أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب ، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته فينبغي أن يخوف به ، وفي خبر : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004659إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " وقال بعض السلف : "ليست اللعنة سوادا في الوجه ونقصانا في المال ، إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت في مثله أو شر منه " وهو كما قال ؛ لأن اللعنة هي الطرد والإبعاد ، فإذا لم يوفق للخير ، ويسر له الشر فقد أبعد ، والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان ، وكل ذنب فإنه يدعو إلى ذنب آخر ويتضاعف فيحرم العبد به عن رزقه النافع من مجالسة العلماء المنكرين للذنوب ، ومن مجالسة الصالحين ، بل يمقته الله - تعالى - ليمقته الصالحون .
وبالجملة فالأخبار كثيرة في آفات الذنوب في الدنيا ، فمن ابتلي بشيء منها كان عقوبة له ، وإن أصابته نعمة كانت استدراجا له ويحرم جميل الشكر حتى يعاقب على كفرانه ،
[ ص: 280 ] وأما المطيع فمن بركة طاعته أن تكون كل نعمة في حقه جزاء على طاعته ويوفق لشكرها ، وكل بلية كفارة لذنوبه وزيادة في درجاته .
الرابع : ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالخمر والزنا والسرقة وغير ذلك .
والمدار في هذا الباب على الفكر النافع ، وهو الفكر في عقاب الآخرة وأهوالها وشدائدها ، وحسرات العاصين في الحرمان عن النعيم المقيم ، وليعتبر بأنه لو مرض فأخبره طبيب نصراني بأن شرب الماء البارد يضره ويسوقه إلى الموت ، وكان الماء البارد ألذ الأشياء عنده ، تركه مع أن الموت ألمه لحظة ومفارقته للدنيا لا بد منها ، فيقول : "كيف يليق بعقلي أن يكون قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات عندي دون قول نصراني طبيب يدعي الطب بلا معجزة على طبه ، وكيف يكون عذاب النار عندي أخف من عذاب المرض ، وكل يوم في الآخرة بمقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا " ومتى استشعر قلبه ذلك انبعث خوفه ، وإذا قوي الخوف تيسر بمعونته الصبر ، وتوفيق الله وتيسيره من وراء ذلك .
فمن أعطى من قلبه حسن الإصغاء واستشعر الخوف فاتقى ، وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره الله - تعالى - لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسييسره الله للعسرى ، فلا يغني عنه ما اشتغل به من ملاذ الدنيا مهما هلك وتردى ، وما على الأنبياء إلا شرح طرق الهدى وإنما لله الآخرة والأولى .