19 - الإنصاف في تمييز الأوقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة :
أمير وقف خانقاه ورتب بها شيخا ، وصوفية ، وجعل لهم دراهم ، وزيتا ، وصابونا ، وخبزا ولحما ، فضاق الوقف فهل يقدم الشيخ على الصوفية أو يصرف بينهم بالمحاصة ؟ وهل يقتصر على صنف من الأصناف التي عينها الواقف ويترك الباقي أو يأخذون من جميع الأصناف التي عينها الواقف بالمحاصة ؟ وهل تجوز الاستنابة في شيء من الوظائف أم لا ؟ .
الجواب : أقول أولا وبالله التوفيق : الأوقاف قسمان ، قسم ليس مأخذه من بيت المال ولا مرجعه إليه ، وهذا الوقف مبناه على التشديد والتحريص لا يجوز تناول ذرة منه إلا مع استيفاء ما شرطه الواقف ؛ لأنه مال أجنبي لم يخرج عن ملكه إلا على وجه مخصوص بالشرط المذكور ، وقسم مأخذه من بيت المال ، بأن يكون واقفه خليفة أو ملكا من الملوك السابقة
nindex.php?page=showalam&ids=16236كصلاح الدين بن أيوب وأقاربه ، أو مرجعه إلى بيت المال كأوقاف أمراء الدولة القلاوونية ومن بعدهم إلى زماننا هذا ، وإنما قلنا إن مرجعه إلى بيت المال ؛ لأن واقفيه أرقاء بيت المال وفي ثبوت عتقهم نظر ، وقد ذكر الشيخ
تاج الدين بن السبكي في واقعة وقعت بعد السبعمائة وهي : عبد انتهى الملك فيه لبيت المال فأراد شراء نفسه من وكيل بيت المال فأفتى جماعة بالمنع ؛ لأن ذلك عقد عتاقة ، وعبد بيت المال لا يجوز
[ ص: 184 ] عتقه ، وأفتى آخرون بالجواز ؛ لأنه عقد بعوض لا مجانا فلم يضع منه على بيت المال شيء ، واختار
ابن السبكي هذا الثاني أورده في الترشيح ، فإذا اختلف في جواز العتق بعوض فما ظنك به بغير عوض ، وإنما لم ينص متقدمو الأصحاب على هذه المسألة بخصوصها ؛ لأنها لم تعم بها البلوى في زمنهم ، وإنما كثر ذلك بعد الستمائة ، وقد قام الشيخ
عز الدين بن عبد السلام - لما حدث ذلك في زمنه - القومة الكبرى في بيع الأمراء ، وقال : هؤلاء عبيد بيت المال ولا يصح عندي عتقهم ، وروى الحافظ
أبو القاسم ابن عساكر بسنده عن
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز أنه دخل إليه بعض أولاد خلفاء
بني أمية فقال له : أعطني حقي من بيت المال فقال له
عمر : ما أحوجك إلى أن أبيعك وأصرف ثمنك في مصالح المسلمين قال : وكيف ؟ قال : لأن أباك وهو خليفة أخذ أمك من رقيق بيت المال واستولدها إياك ولم يكن له ذلك فهو زان ، وأنت عبد بيت المال ، وفي طبقات الحنفية في ترجمة بعض علمائهم أنه كان من مماليك
nindex.php?page=showalam&ids=15384الخليفة الناصر فاشتغل بالعلم وبرع وصار إماما قائما بالتدريس والإفتاء ، فأرسل إليه الخليفة
الناصر بعتقه وقال له : إنك قائم بنفع المسلمين فرد إليه العتاقة وقال : أنا عبد بيت المال فلا يصح عتقي .
فإن قال قائل : فقد ذكر الأصحاب في الأسير أن الإمام يتخير فيه بين القتل والمن والاسترقاق ، قلنا : لا يصح القياس على مسألة الأسير ؛ لأنه يجوز تفويته بالقتل ، فبالمن أولى ؛ ولأنه لم يصرف فيه شيء من بيت المال بخلاف هذا الذي اشتري بثمن منه ، وأيضا فقد نص الأصحاب على أنه ليس للإمام ذلك في الأسير بالتشهي بل ينظر ما تقتضيه المصلحة فيفعله ، وثبوت المصلحة في عتق هذا الجم الغفير من مماليك بيت المال متعذر أو متعسر ، وإن وجدت في واحد أو عشرة أو مائة لا توجد في ألوف مؤلفة ، وأي مصلحة في عتقهم ، وجميع ما يراد منهم يمكنهم فعله مع الرق ، إذا عرف ذلك عرف أن مرجع ما بأيديهم إلى أنه مال بيت المال ، فهذا القسم من الأوقاف مبناه على المسامحة والترخيص ؛ لأن لكل من العلماء وطلبة العلم من الاستحقاق في بيت المال أضعاف ما يأخذونه منهم .
والدليل على هذه التفرقة أمور : منها أن الشيخ
ولي الدين العراقي لما حكى قول
السبكي في إعطاء وظيفة العالم والفقيه لولده الصغير فرق بين الأوقاف الخاصة والتي مأخذها من بيت المال ، وأظن الأذرعي سبقه إلى ذلك ، ومنها أنه وقع في بعض كلام
البلقيني التصريح بأن طلبة العلم يأكلون من هذه الأوقاف الموجودة الآن على وجه أنهم يستحقون من بيت المال ذلك وأكثر منه ، ذكر ذلك في مجلس عقد بسبب ذلك أيام الظاهر
[ ص: 185 ] برقوق ، ومنها أنك إذا تأملت فتاوى
النووي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12795وابن الصلاح وجدتهما يشددان في الأوقاف غاية التشديد ، وإذا تأملت فتاوى
السبكي ،
والبلقيني ، وسائر المتأخرين وجدتهم يرخصون ويسهلون وليس ذلك منهم لمخالفة
للنووي ، بل كل تكلم بحسب الواقع في زمنه ، فإن غالب الأوقاف التي كانت في زمن
النووي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12795وابن الصلاح كانت خاصة ، وإنما حدثت أوقاف الأتراك في أواخر القرن السابع وكثرت في القرن الثامن وهو عصر
السبكي ومن بعده ، وقطعت الأرزاق التي كانت تجري على الفقهاء من بيت المال من عهد
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب إلى الخليفة
المستعصم كل عام فرأى العلماء أن هذه الأوقاف أرصدت لهم من بيت المال عوضا عما كانوا يأخذونه منه كل عام ، فرخصوا فيها ؛ لأنهم كانوا يأخذون ذلك القدر من غير عمل يكلفونه بل على القيام بالعلم ، خاصة فمن كان بهذه الصفة جاز له فيما بينه وبين الله الأخذ منها ، وإن لم يقم بما شرطه الواقف ، ومن لم يكن بصفة القيام بالعلم اشتغالا وإشغالا حرم عليه الأخذ منها ، وإن باشر العمل .
وقد قال
الدميري في شرح المنهاج : سألت شيخنا - يعني
الأسنوي - مرتين عن
غيبة الطالب عن الدرس هل يستحق المعلوم أو يعطى بقسط ما حضر ؟ فقال : إن كان الطالب في حال انقطاعه يشتغل بالعلم استحق وإلا فلا ، ولو حضر ولم يكن بصدد الاشتغال لم يستحق ؛ لأن المقصود نفعه بالعلم لا مجرد حضوره ، وكان يذهب إلى أن ذلك من باب الإرصاد ، وقال
الزركشي في شرح المنهاج : ظن بعضهم أن الجامكية على الإمامة والطلب ونحوهما من باب الإجارة حتى لا يستحق شيئا إذا أخل ببعض الصلوات أو الأيام وليس كذلك ، بل هو من باب الإرصاد والإرزاق المبني على الإحسان والمسامحة بخلاف الإجارة فإنها من باب المعاوضة ، ولهذا يمتنع
أخذ الأجرة على القضاء ويجوز إرزاقه من بيت المال بالإجماع انتهى ، وهذا الذي قاله
الزركشي صحيح ، وهو محمول على الأوقاف التي هي من القسم الثاني كما كان الأكثر في زمانه ، وإذا قلنا بقوله من الاستحقاق مع الغيبة قلنا به مع الاستنابة من باب أولى ، ولا نقول بواحد من الأمرين في الأوقاف التي من القسم الأول ، وعلى هذا تحمل فتوى النووي بالمنع ، ونقول في القسم الثاني بجواز النزول وإعطاء الوظيفة للولد الصغير ولا نقول بذلك في القسم الأول ، وينبني على ذلك أيضا مسألة تقديم الشيخ ، فما كان من القسم الأول لا يقدم فيه أحد على أحد إلا بنص من الواقف ، وما كان من القسم الثاني ينظر ، فإن كان الشيخ بصفة الاستحقاق من بيت المال لاتصافه بالعلم ، وبقية المنزلين ليسوا كذلك قدم الشيخ
[ ص: 186 ] إذا ضاق الوقف قطعا ؛ لأنه منفرد بالاستحقاق ، وإن كان الكل بصفة العلم والشيخ أحوج منهم قدم كما يقدم إذا ضاق بيت المال الأحوج فالأحوج ، وإن استووا في العلم والحاجة صرف بينهم بالمحاصة من غير تقديم ، وينبني على ذلك أيضا مسألة الاقتصار على صنف من الأصناف المقررة ، ففي القسم الأول لا يقتصر بل يصرف من كل صنف بالمحاصة ؛ مراعاة لغرض الواقف ، وفي الثاني يجوز الاقتصار عند الضيق ، والأولى الاقتصار على النقد ؛ لأنه أيسر وبه تحصل سائر الأصناف ، والله أعلم .