30 - حسن التصريف في عدم التحليف
وقع في هذه الأيام أنني استفتيت عن
رجل أقر بأنه استأجر أرضا من مالكها ، وأنه رأى وتسلم ، وأشهد على نفسه بذلك ، ثم عاد بعد مدة وأنكر الرؤية ، وطلب يمين المؤجر بذلك فهل له ذلك ؟ فأجبت بأن له تحليفه على التسليم لا على الرؤية ، ثم بلغني عن بعض المفتين أنه أجاب : بأن له التحليف في الرؤية أيضا ، فكتبت له أن هذا الأمر تأباه القواعد ، فلا يقبل إلا بنقل صريح ، وفرق بينه وبين مسألة القبض ، فكتب لي ما ملخصه : إن ذلك معلوم من عموم وخصوص ، أما العموم فقولهم : أن كلما لو أقر المدعى عليه به نفع
[ ص: 294 ] المدعي تجوز الدعوى به وتسمع ، أما الخصوص فقول المنهاج في باب الإقرار : لو أقر ببيع أو هبة وإقباض ، ثم قال : كان فاسدا ، وأقررت لظني الصحة ، لم يقبل ، وله تحليف المقر له ، قال : ولم يفرق الأصحاب بين علة فساد وعلة ، قال : وإذا حلف بعد إقرار المدعي بالبيع فتحليفه عند انتفاء شرطه أولى ، قال : ويشهد لذلك تصحيح الأسنوي أن القول قول منكر الرؤية ، وموافقته على أن القول قول من قال : إن المبيع معلوم ، والفرق أن دعوى عدم الرؤية أقرب إلى الصدق من دعوى كونه غير معلوم ، ومنكر الرؤية معه أصل وظاهر ، فظهر أن القواعد ما تأبى ذلك قال : ونحن في الجواب ما خرجنا على مسألة القبض ، ولو خرجنا صح التخريج ، لكن لا معنى للتخريج مع النقل من العموم والخصوص - هذا آخر كلامه .
فلما وقفت عليه رأيته لم يحم حول الحمى ، وهو في غاية الفساد ، فكتبت إليه ما صورته : وقفت على ما سطره مولانا فوجدت فيه مؤاخذات ، وكنا أردنا الإغضاء عن ذلك كما هو دأبنا مع أكثر الناس ، ثم قوي العزم على ذكر ذلك ؛ لأن أكثر إعراضنا إنما هو عن الجاهلين ، كما أمر الله ، لا عن مثلكم ، فمن ذلك قولكم : إن كلما لو أقر المدعى عليه به نفع المدعي تجوز الدعوى به وتسمع ، فجوابه : إن هذه القاعدة ليست على عمومها وإنما هي أكثرية ، ومن ذلك استدلالكم على مسألتنا بمسألة الإقرار بالبيع المذكورة في المنهاج ، وهذا أمر عجيب يطول التعجب منه ، وما ظننت أن مثل هذا يلتبس على آحاد الناس فضلا عنكم ، وأشد من ذلك دعواكم أنه نقل خاص في المسألة ، وليس بخاص ، بل ولا عام ، فشتان ما بين المسألتين ، وإن بينهما لأشد المباينة ، وإن بينهما من الفرق كما بين القدم والفرق ، بل كما بين حضيض الثرى ومناط الثريا ، وبيان ذلك أن مسألة المنهاج صورتها فيمن أقر بعقد إجمالي مشتمل على جزئيات وصفات وشروط فعاد ولم يكذب نفسه ، ولكن أنكر شرطا من شروطه ، أو شيئا من لوازمه ، أو صفة من صفاته قائلا معتذرا : لم أظن أن فواته يفسد العقد فلهذا سمحنا له بالتحليف ؛ لأن مثل هذا قد يخفى عليه .
وأما مسألتنا هذه فصورتها : أنه
أقر على نفسه أنه رأى ما شهد عليه بذلك ، ثم عاد وأنكر ذلك بالكلية ، وأكذب نفسه بلا عذر ولا تأويل ، فأين هذه المسألة من تلك ؟ أيقاس على رجل أقر بعقد مجمل ، ثم لم ينكر ما وقع منه ، وإنما أنكر شيئا من لوازمه ، كالرؤية مثلا ؟ وهو لم يتعرض لها في إقراره الأول ، ولا ذكرها من صرح بإقراره بالرؤية ، ثم عاد يكذب نفسه ولا عذر له في ذلك لا ولا كرامة ولا نعمة عين ، وقولنا : ولا عذر له ولا تأويل احترزت به عن مسألة القبض ، فإنه فيها أقر بالقبض ثم عاد وأكذب نفسه فيه ، لكن بعذر وتأويل ؛ لأنه
[ ص: 295 ] جرت العادة بتأخير القبض عن العقد ، وإن الناس يقرون به لأجل رسم القبالة ؛ ليقبضوا بعد ذلك ولا كذلك الرؤية ، فإنه لم تجر العادة ولا الشرع بتأخيرها عن العقد حتى نقول إنه أقر بها لأجل رسم القبالة ؛ ليرى بعد ذلك - هذا فرق ما بينهما - فقد علم بهذا أن مسألة الرؤية تفارق مسألة القبض وإن كانت تشبهها ، وأنها تباين مسألة البيع المذكورة في المنهاج بكل وجه ؛ لأن الإقرار في مسألة البيع بأمر عام أنكر منه جزئية خاصة من لوازمه ، مع بقائه على وقوع أصل العقد المقر به ، لكن بفقد شرط من شروطه ، ومسألتنا هذه الإقرار فيها وقع بجزئية خاصة لا غير ، ثم عاد وأنكرها فلا يعذر في ذلك ، ولا يقبل رجوعه ، ولا يسمح له بالتحليف كما هو شأن الأقارير غالبا ، وإنما كان يصلح لكم أن تستدلوا بمسألة المنهاج لو كانت الصورة أنه أقر بعقد إجارة فقط ، ولم يتعرض للرؤية ولا غيرها ، ثم عاد وقال : لم أر ، فهذه هي التي يقال فيها له التحليف ، وإنها داخلة في مسألة المنهاج وأما صورتنا هذه فلا .
وإنما نظير صورتنا هذه أن يقر ببيع ورؤية ، ثم يعود ويقول : لم أر ، فتقولون في هذه : إن له التحليف . إن قلتم لا فهو المقصود ، وإن قلتم نعم قلنا لكم : لا نقل في ذلك والقواعد تأباه ، فإن المسألة التي استندتم إليها في المنهاج ليس صورتها أنه صرح بالإقرار بالرؤية مع الإقرار بالبيع ، وإنما صورتها أنه أقر بالبيع من غير تعرض لذكر شروطه : من رؤية أو غيرها ، ثم عاد وأنكر الرؤية .
ومن العجب قولكم : إن الأصحاب لم يفرقوا بين علة فساد وعلة ، فإن هذا إنما يمشي معكم في أمر عام له شرط فواته مفسد ، لم يذكره عند الإقرار ، ثم عاد وذكره ، وأما الإقرار بالرؤية الذي هو مسألتنا فليس شيئا عاما له شرط فواته يفسده ، وإنما هو أمر خاص أقر به ، ثم عاد وأنكره فلا يسمع ، فثبت بهذا أن بين مسألتنا ومسألة المنهاج بونا عظيما ، وأن قولنا في مسألة إنكار الرؤية بعد الإقرار بها : ليس له التحليف هو الذي يقتضيه النظر الصحيح ، والتخريج الصحيح الرجيح ، فلا يعدل عنه إلا بنقل صريح ، فحينئذ نقبله ونقول : إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل .