صفحة جزء
ذكر الحديث الوارد في أنه صلى الله عليه وسلم لم يتنور .

قال ابن أبي شيبة في المصنف : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن هشام ، عن الحسن - هو البصري - قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر لا يطلون . قال ابن كثير : هذا من مراسيل الحسن ، وقد تكلم فيها ، ثم هو معارض بالأحاديث السابقة . وأخرج البيهقي في سننه عن عبد الله بن المبارك قال : ما أدري من أخبرني عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنور . وأخرج أبو داود في المراسيل من طريق عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنور ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ، كلاهما منقطع . وأخرج البيهقي من طريق مسلم الملائي عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتنور ، فإذا كثر شعره حلقه . قال البيهقي : مسلم الملائي ضعيف الحديث ، فإن كان حفظه فيحتمل أن يكون قتادة أخذه أيضا عن أنس .

قلت : فرجع الأمر إلى أنه حديث واحد ، وهو أولا ضعيف ، وثانيا معارض [ ص: 407 ] بالأحاديث السابقة ، وهي أقوى منه سندا وأكثر عددا ، وثالثا أن تلك مثبتة وهذا ناف ، والقاعدة الأصولية عند التعارض تقديم المثبت على النافي ، خصوصا أن التي روت الإثبات باشرت الواقعة ، وهي من أمهات المؤمنين ، وهي أجدر بهذه القضية ; فإنها مما يفعل في الخلوة غالبا ، لا بين أظهر الناس ، وكلاهما من وجوه الترجيحات . فهذه خمسة أجوبة ، وسادس : وهو أنه على حسب اختلاف الأوقات ، فتارة كان يتنور وتارة كان يحلق ولا يتنور .

وقد روي مثل هذا الاختلاف عن ابن عمر ، فتقدم من طرق عنه أنه كان يتنور ، وأخرج الطبراني في الكبير بسند رجاله موثقون عن مسكين بن عبد العزيز ، عن أبيه قال : دخلت على عبد الله بن عمر وجاريته تحلق عنه الشعر ، فقال : إن النورة ترق الجلد . فالجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه فعل الأمرين معا ، هذا في أوقات وهذا في أوقات ، نعم ثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره التنور ويعلله بأنه من النعيم . قال سعيد بن منصور : حدثنا حبان بن علي ، عن محمد بن قيس الأسدي ، عن رجل قال : كان عمر بن الخطاب يستطيب بالحديد ، فقيل له : ألا تنور ؟ قال : إنها من النعيم وأنا أكرهها ، وقال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن محمد بن قيس الأسدي ، عن علي بن أبي عائشة قال : كان عمر رجلا أهدب ، وكان يحلق عنه الشعر ، وذكرت له النورة فقال : النورة من النعيم .

وقد روي عنه ما يدل على أنه إنما كره الإكثار من ذلك . وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد : حدثنا بقية ، حدثني أرطاة بن المنذر ، حدثني بعضهم أن عمر بن الخطاب قال : إياكم وكثرة الحمام ، وكثرة طلاء النورة ، والتوطي على الفرش ; فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين . فهذا الأثر قاطع للنزاع ، وأولى ما اعتمد في التوقيت حديث ابن عمر السابق ، وهو التنور كل شهر ، فيكره في أقل من ذلك ، ثم رأيت في مساوئ الأخلاق للخرائطي قال : حدثنا حماد بن الحسن بن عنبسة الوراق ، ثنا عبد العزيز بن الخطاب ، ثنا حميد - يعني ابن يعقوب مولى بني هاشم ، وكان ثقة - عن العباس بن فضل ، عن القاسم ، عن أبي حازم ، عن ابن عباس قال : يا أيها الناس اتقوا الله ولا تكذبوا ، فوالله ما اطلى نبي قط ، لكن قال ابن الأثير في النهاية : ما اطلى نبي قط ; أي : ما مال إلى هواه ، وأصله من ميل الطلى ، وهي الأعناق ، واحدتها طلاة ، يقال : أطلى الرجل إطلاء : إذا مالت عنقه إلى أحد الشقين . انتهى . وقال صاحب الملخص في غريب الحديث في حديثه عليه السلام : ما [ ص: 408 ] أطلى نبي قط : أي : ما مالت طلاته ، أي عنقه ، أي ما جار ، وقال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب : في بعض الأحاديث : ما أطلى نبي قط - أي ما مال إلى هوى - والأصل فيه ميل عنق الإنسان ، يقال : أطلى الرجل ; أي مالت عنقه للموت أو غيره ، وذكر مثل ذلك أيضا صاحب القاموس .

خاتمة : روى البخاري في تاريخه وابن عدي في الكامل والطبراني في الكبير والأوسط عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول من صنعت له النورة ودخل الحمام سليمان بن داود " ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قصة بلقيس : ( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ) فإذا هي شعراء ، فقال سليمان : ما يذهبه ؟ قالوا : يذهبه الموسى ، قال : أثر الموسى قبيح ، فجعلت الشياطين النورة ، فهو أول من جعلت له النورة . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن عبد الله بن شداد مثله ، وله طرق عن مجاهد وغيره . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في القصة أن الشياطين صنعوا له نورة من أصداف فطلوها فذهب الشعر .

التالي السابق


الخدمات العلمية