صفحة جزء
روى ابن سعد في الطبقات عن الكلبي قال : هاجر إبراهيم من بابل إلى الشام ، وهو يومئذ ابن سبع وثلاثين سنة ، فأتى حران فأقام بها زمانا ، ثم أتى الأردن فأقام بها زمانا ، ثم خرج إلى مصر فأقام بها زمانا ، ثم رجع إلى الشام فنزل السبع - أرضا بين إيلياء وفلسطين - ثم إن بعض أهل البلد آذوه فتحول من عندهم فنزل منزلا بين الرملة وإيلياء ، وروى ابن سعد عن الواقدي قال : ولد لإبراهيم إسماعيل ، وهو ابن تسعين سنة ، فعرف من هذين الأثرين أن بين هجرته من بابل عقب واقعة النار وبين الدعوة التي دعا بها بمكة بضعا وخمسين سنة .

تتميم : ثم استمر التوحيد في ولد إبراهيم وإسماعيل ، قال الشهرستاني في الملل والنحل : كان دين إبراهيم قائما ، والتوحيد في صدر العرب شائعا ، وأول من غيره واتخذ عبادة الأصنام عمرو بن لحي ، قلت : وقد صح بذلك الحديث ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، كان أول من سيب السوائب ) وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار ) .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير في تفسيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ( رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه بالنار ، إنه أول من غير دين إبراهيم ) ، ولفظ ابن إسحاق : " أنه كان أول من غير دين إسماعيل " ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ، وله طريق أخرى ، وأخرج البزار في مسنده بسند صحيح عن أنس قال : كان الناس بعد إسماعيل على الإسلام وكان الشيطان يحدث الناس بالشيء يريد أن يردهم عن الإسلام حتى أدخل عليهم في التلبية : لبيك اللهم لبيك [ ص: 261 ] لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، قال : فما زال حتى أخرجهم عن الإسلام إلى الشرك ، قال السهيلي في الروض الأنف : كان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهم عن مكة قد جعلته العرب ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة ؛ لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم ، وقد ذكر ابن إسحاق أنه أول من أدخل الأصنام الحرم وحمل الناس على عبادتها ، وكانت التلبية من عهد إبراهيم : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ، حتى كان عمرو بن لحي ، فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه ، فقال عمرو : لبيك لا شريك لك ، فقال الشيخ : إلا شريكا هو لك ، فأنكر ذلك عمرو وقال : وما هذا ؟ فقال الشيخ : قل : تملكه وما ملك ؛ فإنه لا بأس بهذا ، فقالها عمرو ودانت بها العرب ، انتهى كلام السهيلي ، وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه : كانت العرب على دين إبراهيم إلى أن ولي عمرو بن عامر الخزاعي مكة وانتزع ولاية البيت من أجداد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فأحدث عمرو المذكور عبادة الأصنام ، وشرع للعرب الضلالات من السوائب وغيرها ، وزاد في التلبية بعد قوله : لبيك لا شريك لك ، قوله : إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، فهو أول من قال ذلك ، وتبعته العرب على الشرط فشابهوا بذلك قوم نوح وسائر الأمم المتقدمة ، وفيهم على ذلك بقايا من دين إبراهيم ، وكانت مدة ولاية خزاعة على البيت ثلاثمائة سنة ، وكانت ولايتهم مشئومة إلى أن جاء قصي جد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقاتلهم واستعان على حربهم بالعرب وانتزع ولاية البيت منهم ، إلا أن العرب بعد ذلك لم ترجع عما كان أحدثه لها عمرو الخزاعي من عبادة الأصنام وغير ذلك ؛ لأنهم رأوا ذلك دينا في نفسه لا ينبغي أن يغير . انتهى .

فثبت أن آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - من عهد إبراهيم إلى زمان عمرو [ المذكور ] كلهم مؤمنون بيقين ، ونأخذ في الكلام على الباقي وعلى زيادة توضيح لهذا القدر .

الأمر الثاني : مما ينتصر به لهذا المسلك ، آيات وآثار وردت في ذرية إبراهيم وعقبه ، الآية الأولى - وهي أصرحها - قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه ) أخرج عبد بن حميد في تفسيره بسنده عن ابن عباس في قوله : ( وجعلها كلمة باقية في عقبه ) قال : لا إله إلا الله ، باقية في عقب إبراهيم ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : ( وجعلها كلمة باقية في عقبه ) قال : لا إله إلا الله ، وقال عبد بن حميد : حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة في [ ص: 262 ] قوله : ( وجعلها كلمة باقية في عقبه ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله والتوحيد ، لا يزال في ذريته من يقولها من بعده ، وقال عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة في قوله : ( وجعلها كلمة باقية في عقبه ) قال : الإخلاص والتوحيد ، لا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده ، أخرجه ابن المنذر ثم قال : وقال ابن جريج في الآية في عقب إبراهيم : فلم يزل بعد من ذرية إبراهيم من يوحد الله ويعبده ، أخرجه ابن المنذر ، ثم قال : وقال ابن جريج في الآية في عقب إبراهيم : فلم يزل بعد من ذرية إبراهيم من يقول لا إله إلا الله ، قال : وقول آخر : فلم يزل ناس من ذريته على الفطرة يعبدون الله حتى تقوم الساعة ، وأخرج عبد بن حميد عن الزهري في الآية قال : العقب ولده الذكور والإناث وأولاد الذكور . وأخرج عن عطاء قال : العقب ولده وعصبته .

الآية الثانية قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) أخرج ابن جرير في تفسيره عن مجاهد في هذه الآية قال : فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته ، واستجاب الله له وجعل هذا البلد آمنا ورزق أهله من الثمرات وجعله إماما وجعل من ذريته من يقيم الصلاة ، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن وهب بن منبه : أن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش ، فذكر الحديث بطوله في قصة البيت الحرام ، وفيه من قول الله لآدم في حق إبراهيم - عليهما السلام - : وأجعله أمة واحدا قانتا بأمري داعيا إلى سبيلي ، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم ، أستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته ، الحديث .

هذا الأثر موافق لقول مجاهد المذكور آنفا ، ولا شك أن ولاية البيت كانت معروفة بأجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون سائر ذرية إبراهيم إلى أن انتزعها منهم عمرو الخزاعي ، ثم عادت إليهم ، فعرف أن كل ما ذكر عن ذرية إبراهيم ، فإن أولى الناس به سلسلة الأجداد الشريفة الذين خصوا بالاصطفاء ، وانتقل إليهم نور النبوة واحدا بعد واحد ، فهم أولى بأن يكونوا هم البعض المشار إليهم في قوله : ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ) وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه سئل : هل عبد أحد من ولد إسماعيل الأصنام ، قال : لا ، ألم تسمع قوله ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) قيل : فكيف لم يدخل ولد إسحاق وسائر ولد إبراهيم ؟ قال : لأنه دعا لأهل هذا البلد أن لا يعبدوا ، إذا أسكنهم إياه [ ص: 263 ] فقال : ( اجعل هذا البلد آمنا ) ولم يدع لجميع البلد بذلك فقال : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) فيه ، وقد خص أهله وقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ) فانظر إلى هذا الجواب من سفيان بن عيينة ، وهو أحد الأئمة المجتهدين ، وهو شيخ إمامنا الإمام الشافعي ، رضي الله عنهما .

الآية الثالثة : قوله تعالى حكاية عن إبراهيم - عليه السلام - ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ) أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ) قال : فلن يزال من ذرية إبراهيم ناس على الفطرة يعبدون الله ، آية رابعة : أخرج أبو الشيخ في تفسيره عن زيد بن علي قال : قالت سارة لما بشرتها الملائكة : ( قالت ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ) فقالت الملائكة ترد على سارة : ( أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ) قال : فهو كقوله : ( وجعلها كلمة باقية في عقبه ) محمد وآله من عقب إبراهيم داخل في ذلك .

وقد أخرج ابن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال : كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير ، وذكر أبو جعفر الطبري وغيره أن الله أوحى إلى أرميا أن اذهب إلى بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على العرب ، وأمر الله أرميا أن يحتمل معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة ؛ فإني مستخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل ، ففعل أرميا ذلك ، واحتمل معد إلى أرض الشام ، فنشأ مع بني إسرائيل ثم عاد بعد أن هدأت الفتن ، وأخرج ابن سعد في الطبقات من مرسل عبد الله بن خالد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ( لا تسبوا مضر فإنه كان قد أسلم ) وقال السهيلي في الروض الأنف في الحديث المروي : لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مؤمنين .

قلت : وقفت عليه مسندا فأخرجه أبو بكر محمد بن خلف بن حيان المعروف بوكيع في كتاب الغرر من الأخبار ، قال : حدثنا إسحاق بن داود بن عيسى المروزي ثنا أبو يعقوب [ ص: 264 ] الشعراني ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ثنا عثمان بن قايد عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تسبوا ربيعة ولا مضر فإنهما كانا مسلمين ) وأخرج بسنده عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تسبوا تميما وضبة فإنهما كانا مسلمين ) وأخرج بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ) ثم قال السهيلي : ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( لا تسبوا إلياس فإنه كان مؤمنا ) ، وذكر أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج ، قال : وكعب بن لؤي أول من جمع يوم العروبة ، وقيل : هو أول من سماها الجمعة ، فكانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعلمهم أنه من ولده ويأمرهم باتباعه والإيمان به ، وينشدهم في هذا أبياتا ، منها قوله :


يا ليتني شاهدا فحواء دعوته إذا قريش تبغي الحق خذلانا

. قال : وقد ذكر الماوردي هذا الخبر عن كعب في كتاب " الأعلام " له ، انتهى .

قلت : هذا الخبر أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وفي آخره : وكان بين موت كعب ومبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة سنة وستون سنة ، والماوردي المذكور هو أحد أئمة أصحابنا ، وهو صاحب الحاوي الكبير ، له كتاب " أعلام النبوة " في مجلد كثير الفوائد ، وقد رأيته وسأنقل منه في هذا الكتاب .

فحصل مما أوردناه أن آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - من عهد إبراهيم إلى كعب بن لؤي كانوا كلهم على دين إبراهيم ، وولد كعب مرة ، الظاهر أنه كذلك ؛ لأن أباه أوصاه بالإيمان ، وبقي بينه وبين عبد المطلب أربعة آباء وهم : كلاب ، وقصي ، وعبد مناف ، وهاشم ، ولم أظفر فيهم بنقل لا بهذا ولا بهذا .

وأما عبد المطلب ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : وهو الأشبه ، أنه لم تبلغه الدعوى لأجل الحديث الذي في البخاري وغيره ، والثاني : أنه كان على التوحيد وملة إبراهيم ، وهو ظاهر عموم كلام الإمام فخر الدين وما تقدم عن مجاهد وسفيان بن عيينة وغيرهما في تفسير الآيات السابقة ، والثالث : أن الله أحياه بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى آمن به وأسلم ثم مات ، حكاه ابن سيد الناس ، وهذا أضعف الأقوال وأسقطها وأوهاها ؛ لأنه لا دليل عليه ، ولم يرد قط في حديث لا ضعيف ولا غيره ، ولا قال هذا القول أحد من أئمة السنة ، إنما حكوه عن بعض الشيعة ، ولهذا اقتصر غالب المصنفين على حكاية القولين الأولين وسكتوا عن حكاية الثالث ؛ لأن خلاف الشيعة [ ص: 265 ] لا يعتد به ، قال السهيلي في الروض الأنف : وفي الصحيح : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على أبي طالب عند موته وعنده أبو جهل وابن أبي أمية ، فقال : يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ، فقال له أبو جهل وابن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال : أنا على ملة عبد المطلب ) قال : فظاهر هذا الحديث يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك ، قال : ووجدت في بعض كتب المسعودي اختلافا في عبد المطلب ، وأنه قد قيل فيه : مات مسلما لما رأى من الدلائل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلم أنه لا يبعث إلا بالتوحيد ، فالله أعلم ، غير أن في مسند البزار وكتاب النسائي من حديث عبد الله بن عمرو : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة وقد عزت قوما من الأنصار عن ميتهم : لعلك بلغت معهم الكدى ؟ فقالت : لا ، فقال : لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك ) قال : وقد خرجه أبو داود ، ولم يذكر فيه : " حتى يراها جد أبيك " قال : وفي قوله : جد أبيك ، ولم يقل : جدك ، تقوية للحديث الضعيف الذي قدمنا ذكره : أن الله أحيا أباه وأمه وآمنا به ، فالله أعلم .

قال : ويحتمل أنه أراد تخويفها بذلك ؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - حق ، وبلوغها معهم الكدى لا يوجب خلودا في النار ، هذا كله كلام السهيلي بحروفه .

وقال الشهرستاني في " الملل والنحل " : ظهر نور النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسارير عبد المطلب بعض الظهور ، وببركة ذلك النور ألهم النذر في ذبح ولده ، وببركته كان يأمر ولده بترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور ، وببركة ذلك النور كان يقول في وصاياه أنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة ، إلى أن هلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب في ذلك ، ففكر وقال : والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب فيها المسيء بإساءته ، وببركة ذلك النور قال لأبرهة : إن لهذا البيت ربا يحفظه ، ومنه قال وقد صعد أبا قبيس :


لاهم إن المرء يمنع     رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم     ومحالهم يوما محالك
فانصر على آل الصليب     وعابديه اليوم آلك

انتهى كلام الشهرستاني ، ويناسق ما ذكره ما أخرجه ابن سعد في طبقاته عن ابن [ ص: 266 ] عباس قال : كانت الدية عشرا من الإبل ، وعبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل ، فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل ، وأقرها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وينضم إلى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتسب إليه يوم حنين فقال :


أنا النبي لا كذب     أنا ابن عبد المطلب

وهذا أقوى ما تقوى به مقالة الإمام فخر الدين ومن وافقه ؛ لأن الأحاديث وردت في النهي عن الانتساب إلى الآباء الكفار ، روى البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي بن كعب ومعاذ بن جبل : أن رجلين انتسبا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : أنا فلان ابن فلان ، أنا فلان ابن فلان ، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ( انتسب رجلان على عهد موسى فقال أحدهما : أنا فلان ابن فلان إلى تسعة ، وقال الآخر : أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام ، فأوحى الله إلى موسى : هذان المنتسبان ، أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة آباء في النار فأنت عاشرهم في النار ، وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين فأنت ثالثهما في الجنة ) وروى البيهقي أيضا عن أبي ريحانة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وشرفا فهو عاشرهم في النار ) وروى البيهقي أيضا عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية ، فوالذي نفسي بيده لما يدحدح الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية ) ، وروى البيهقي أيضا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء ، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها ) .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وأوضح من ذلك في التقرير أن البيهقي أورد في شعب الإيمان حديث مسلم : ( إن في أمتي أربعا من أمر الجاهلية ليسوا بتاركيهن : الفخر في الأحساب . . . ) الحديث ، وقال عقبة : فإن عورض هذا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في اصطفائه من بني هاشم ، فقد قال الحليمي : لم يرد بذلك الفخر ، إنما أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم ، كرجل يقول : كان أبي فقيها ، لا يريد به الفخر ، وإنما يريد به تعريف حاله دون ما عداه ، قال : وقد يكون أراد به الإشارة بنعمة الله عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر ، وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء ، انتهى ، فقوله : أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم ، أو الإشارة بنعمة الله عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر - فيه تقوية لمقالة الإمام وإجرائها على عمومها كما لا يخفى ، إذ الاصطفاء لا يكون إلا لمن هو على التوحيد ، ولا شك أن الترجيح في عبد المطلب بخصوصه عسر جدا ؛ لأن حديث البخاري مصادم قوي ، وإن أخذ [ ص: 267 ] في تأويله لم يوجد تأويل قريب ، والتأويل البعيد يأباه أهل الأصول ، ولهذا لما رأى السهيلي تصادم الأدلة فيه لم يقدر على الترجيح فوقف وقال : فالله أعلم ، وهذا يصلح أن يعد قولا رابعا فيه ، وهو الوقف .

وأكثر ما خطر لي في تأويل الحديث وجهان بعيدان فتركتهما ، وأما حديث النسائي فتأويله قريب وقد فتح السهيلي بابه وإن لم يستوفه ، وإنما سهل الترجيح في جانب عبد الله مع أن فيه معارضا قويا وهو حديث مسلم ؛ لأن ذاك سهل تأويله بتأويل قريب في غاية الجلاء والوضوح ، وقامت الأدلة على رجحان جانب التأويل فسهل المصير ، والله أعلم .

ثم رأيت الإمام أبا الحسن الماوردي أشار إلى نحو ما ذكره الإمام فخر الدين إلا أنه لم يصرح كتصريحه ، فقال في كتابه " أعلام النبوة " : لما كان أنبياء الله صفوة عباده وخيرة خلقه لما كلفهم من القيام بحقه والإرشاد لخلقه استخلصهم من أكرم العناصر ، واجتباهم بمحكم الأواصر ، فلم يكن لنسبهم من قدح ولمنصبهم من جرح ؛ لتكون القلوب لهم أصفى ، والنفوس لهم أوطا ، فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع ولأوامرهم أطوع ، وأن الله استخلص رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أطيب المناكح ، وحماه من دنس الفواحش ، ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منزهة ، وقد قال ابن عباس في تأويل قول الله ( وتقلبك في الساجدين ) أي : تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلك نبيا ، فكان نور النبوة ظاهرا في آبائه ، ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه ، وقصور نسبهما عليه ، ليكون مختصا بنسب جعله الله للنبوة غاية ولتفرده نهاية ، فيزول عنه أن يشارك فيه ويماثل فيه ، فلذلك مات عنه أبواه في صغره ، فأما أبوه فمات وهو حمل ، وأما أمه فماتت وهو ابن ست سنين ، وإذا خبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام ، ليس في آبائه مسترذل ولا مغموز مستبذل ، بل كلهم سادة قادة ، وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة ، انتهى كلام الماوردي بحروفه .

وقال أبو جعفر النحاس في " معاني القرآن " في قوله ( وتقلبك في الساجدين ) روي عن ابن عباس أنه قال : تقلبه في الظهور حتى أخرجه نبيا . وما أحسن قول الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي ، رحمه الله تعالى :


تنقل أحمد نورا عظيما     تلألأ في جباه الساجدينا
تقلب فيهم قرنا فقرنا     إلى أن جاء خير المرسلينا

[ ص: 268 ] وقال أيضا :


حفظ الإله كرامة لمحمد     آباءه الأمجاد صونا لاسمه
تركوا السفاح فلم يصبهم عاره     من آدم حتى أبيه وأمه

وقال الشرف البوصيري صاحب البردة :


كيف ترقى رقيك الأنبياء     يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساووك في علاك وقد حا ل     سنا منك دونهم وسناء
إنما مثلوا صفاتك للنا س     كما مثل النجوم الماء
أنت مصباح كل فضل فما تص     در إلا عن ضوئك الأضواء
لك ذات العلوم من عالم الغي     ب ومنها لآدم الأسماء
لم تزل في ضمائر الكون تختا     ر لك الأمهات والآباء
ما مضت فترة من الرسل إلا     بشرت قومها بك الأنبياء
تتباهى بك العصور وتسمو     بك علياء بعدها علياء
وبدا للوجود منك كريم     من كريم آباؤه كرماء
نسب تحسب العلا بحلاه     قلدتها نجومها الجوزاء

ومنها :


فهنيئا به لآمنة الفض     ل الذي شرفت به حواء
من لحواء أنها حملت أح     مد أو أنها به نفساء
يوم نالت بوضعه ابنة وهب     من فخار ما لم تنله النساء
وأتت قومها بأفضل مما     حملت قبل مريم العذراء

فائدة : قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي ثنا موسى بن أيوب النصيبي ثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال : بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين آدم تسعة وأربعون أبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية