أخبرنا
محمد بن أحمد ، وحدثني عنه
عثمان بن محمد - قبل أن لقيته - ثنا
أبو العباس بن مسروق ، قال : سمعت
الحارث بن أسد ، يقول : "
من عدم الفهم عن الله فيما وعظ لم يحسن أن يستجلب وعظ حكيم ، ومن خرج من سلطان الخوف إلى عزة الأمن اتسعت به الخطايا إلى مواطن الهلكة ، فكشفت عنه ستر العدالة ، وفضحته شواهد العزة ، فلا يرى جميلا يرغب فيه ، ولا قبيحا يأنف عنه ، فتبسط نفسه إلى ري الشهوات ، ولا تميل إلى لذيذ الراحات ، فيستولي عليه الهوى ، فينقص قدره عند سيده ، ويشين إيمانه ، ويضعف يقينه " .
أخبرنا
محمد بن أحمد ، وحدثني عنه
عثمان ، ثنا
أبو العباس بن مسروق ، قال : سئل
الحارث بن أسد عن
الزهد في الدنيا ، قال : " هو عندي العزوف عن الدنيا ولذاذتها وشهواتها ، فتنصرف النفس ، ويتعزز الهم ، وانصراف النفس ميلها إلى ما دعا الله إليها بنسيان ما وقع به من طباعها ، واعتزاز الهم الانقطاع إلى خدمة المولى ، يضن بنفسه عن خدمة الدنيا مستحيا من الله أن يراه خادما لغيره ، فانقطع إلى خدمة سيده ، وتعزز بملك ربه ، فترحل الدنيا عن قلبه ، ويعلم أن في خدمة الله شغلا عن خدمة غيره ، فيلبسه الله رداء عمله ، ويعتقه من عبوديتها ، واعتز أن يكون خادما للدنيا لعزة العزيز الذي أعزه بالاعتزاز عنها ، فصار غنيا من غير مال ، وعزيزا من غير عشيرة ، ودرت ينابيع الحكمة من قلبه ، ونفذت بصيرته ، وسمعت همته ، ووصل بالوهم إلى منتهى أمنيته ، فترقى وارتفع ووصل إلى روح الفرج من هموم الأطماع ، وعذاب
[ ص: 86 ] الحرص .
وقيل له : كيف
تفاوت الناس في الزهد ؟ قال : على قدر صحة العقول وطهارة القلوب ، فأفضلهم أعقلهم ، وأعقلهم أفهمهم عن الله ، وأفهمهم عن الله أحسنهم قبولا عن الله ، وأحسنهم قبولا عن الله أسرعهم إلى ما دعا الله - عز وجل - وأسرعهم إلى ما دعا الله - عز وجل - أزهدهم في الدنيا ، وأزهدهم في الدنيا أرغبهم في الآخرة ، فبهذا تفاوتوا في العقول ، فكل زاهد زهده على قدر معرفته ، ومعرفته على قدر عقله ، وعقله على قدر قوة إيمانه ، فمن استولى على قلبه وهمه علم كشف الآخرة ، ونبهه التصديق على القدوم عليها ، وتبين بقلبه عوار الدنيا ، ودله بصائر الهدى على سوء عواقبها ، ومحبة اختيار الله في تركها ، والموافقة لله في العزوف عنها ، ترحلت الدنيا عن قلب هذا الموفق .
وسئل عن
علامة الصادق ، فقال : أن يكون بصواب القول ناطقا ، لسانه محزون ، ونطقه بالحق موزون ، طاهر القلب من كل دنس ، ومصاف مولاه في كل نفس " .
أخبرنا
محمد - في كتابه - قال : أنبأنا
أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : قال
الحارث بن أسد : "
المنقطع إلى الله - عز وجل - عن خلقه ، ظاهره ظاهر أهل الدنيا ، وباطنه باطن المجلين الهائبين لربهم ؛ لأنه صرف قلبه إلى ربه فاشتغل بذكر رضاه عن ذكر رضا خلقه ، فطاب في الدنيا عيشه ، وتطهر من آثامه ، وأنزل الخلق بالمنزلة التي أنزلهم ربهم ، عبيدا إذ لا يملكون له ضرا ولا نفعا ،
فآثر رضاء الله على رضاهم ، فسخت نفسه بطلب رضى الله ، وإن سخط جميع خلق الله ، يرضي الله بسخط كل أحد ، ولا يسخط الله برضى أحد من خلقه ، فملاك أمره في جميع ذلك ترك الاشتغال ، والتثبيت لمراقبة الرقيب عليه ، فلا يعجل فيسخطه عليه .
وقال :
أسرع الأشياء عظة للقلب وانكسارا له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له ، وأسرع الأشياء إماتة للشهوات لزوم القلب الأحزان ، وأكثر الأشياء صرفا إزالة الاشتغال بالدنيا من القلوب عند المعاينة والمباشرة لها ، والاعتبار بها والنظر إلى ما غاب من الآخرة ،
وأسرع الأشياء هيجانا للتعظيم لله من القلب تدبر الآيات ، والدلائل في التدبير المحكم ، والصنعة المحكمة
[ ص: 87 ] المتقنة من السماء والأرض ، وما بث بينهما من خلقه دلائل ناطقة وشواهد واضحة أن الذي دبرها عظيم قدره ، نافذة مشيئته ، عزيز في سلطانه ، وأشد الأشياء للقلب عن التشاغل بالدنيا الكمد من بعد الحزن ،
وأبعث الأشياء على سخاء النفوس بترك الشهوات الشوق إلى لقاء العزيز الكبير ، وأشد الأشياء إزالة للمكابدات في علو الدرجات في منازل العبادات لزوم القلب محبة الرحمن ، وأنعم الأشياء لقلوب العابدين ، وأدومها لها سرورا الشوق إلى قرب الله ، واستماع كلامه ، والنظر إلى وجهه ، وأظهرها لقلوب المريدين التوبة النصوح منهم للعرض على رب العالمين ، فتلك طهارة المتقين ، ومن بعدها طهارة المحبين ، وهو قطع الأشغال لكل شيء من الدنيا عن محبوبهم ، فإذا طهرت القلوب من كل شيء سوى الله خلا من ذكر كل قاطع عن الله ، وزال عنه كل حاجب يحجب عنه ، فتم بالله سروره ، وصفا ذكره في قلبه ، واستنار له سبيل الاعتبار ، فكانت الدنيا وأهلها عينا ينظر بها إلى ما سترته الحجب من الملكوت ، فحينئذ دام بالله شغله ، وطال إليه حنينه ، وقرت بالله عينه ، فالحزن والكمد قد أشغلا قلبه ، والمحبة والشوق قد أشخصا إلى الله فؤاده ، فشوقه إلى طلب القرب ، والحزن أن يحال بينه وبينه " .
أخبرنا
محمد بن أحمد بن محمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه
عثمان بن محمد العثماني ، ثنا
أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : قلت
nindex.php?page=showalam&ids=15166للحارث بن أسد : ما
المزهود من أجله ؟ قال : " الذي تجانب الدنيا من أجله خمسة أشياء : أحدها أنها مفتنة مشغلة للقلوب عنه ، ، والثانية أنها تنقص غدا من درجات من ركن إليها ، فلا يكون له من الدرجات كمن زهد فيها ، والثالثة أن تركها قربة وعلو عنده في درجات الجنة ، والرابعة الحبس في القيامة وطول الوقوف ، والسؤال عن شكر النعيم بها ، وفي واحدة من هذه الخصال ما يبعث المريد اللبيب على رفضها ، ليشتري بها خيرا منها ، والخامسة -أعظم ما رفضوا من أجله- موافقة الرب في محبته : أن يصغروا ما صغر الله ، ويقللوا ما قلل الله ، ويبغضوا ما أبغض الله ، ويرفضوا ما أحب الله رفضه ، لو لم ينقصهم من ذلك ،
[ ص: 88 ] ولم يشغلهم في دنياهم عن طاعته ، ولم يغفلوا عن شكره ، وكان ثواب الرافض لها في الآخرة ، والراكن إليها واحدا ، وكان الله - عز وجل - أهلا أن يبغض ما أبغض ، ويتهاون بما أهان عليه ، وذلك زهد المحبين له ، المعظمين المجلين ، وقد دل الله - عز وجل - على هذه الخمس خصال بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما نطق به أهل الخاصة من عباده الحكماء العلماء " .
أخبرنا
جعفر بن محمد بن نصر - في كتابه - وحدثني عنه
محمد بن إبراهيم ، قال : سمعت
أبا عثمان البلدي ، يقول : بلغني عن
الحارث بن أسد ، أنه قال : "
العلم يورث المخافة ،
والزهد يورث الراحة ، والمعرفة تورث الإنابة ، وخيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم ، ولا دنياهم عن آخرتهم ، ومن
صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة ، ومن اجتهد في باطنه ورثه الله حسن معاملة ظاهره ، ومن حسن معاملته في ظاهره مع جهد باطنه ورثه الله الهداية إليه ؛ لقوله تعالى : (
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) الآية " .
أخبرنا
محمد بن أحمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه
عثمان بن محمد العثماني ، ثنا
أحمد بن محمد بن مسروق ، قال : قال
الحارث بن أسد ، وسئل :
بم تحاسب النفس ؟ قال : " بقيام العقل على حراسة جناية النفس ، فيتفقد زيادتها من نقصانها ، فقيل له : ومم تتولد المحاسبة ؟ قال : من مخاوف النقص وشين البخس والرغبة في زيادة الأرباح ، والمحاسبة تورث الزيادة في البصيرة ، والكيس في الفطنة ، والسرعة إلى إثبات الحجة ، واتساع المعرفة ، وكل ذلك على قدر لزوم القلب للتفتيش ، فقيل له : من أين تخلف العقول والقلوب عن محاسبة النفوس ؟ قال : من طريق غلبة الهوى والشهوة ; لأن الهوى والشهوة يغلبان العقل والعلم والبيان ، وسئل :
مم يتولد الصدق ؟ قال : من المعرفة بأن الله يسمع ويرى ، وخوف السؤال عن مثاقيل الذر من إرسال اللفظ ، وخلف الوعد ، وتأخير الضمان ، فالمعرفة أصل للصدق ، والصدق أصل لسائر أعمال البر ، فعلى قدر قوة الصدق يزداد العبد في سائر أعمال البر ،
[ ص: 89 ] وسئل عن
الشكر ما هو ؟ قال : علم المرء بأن النعمة من الله وحده ، وأن لا نعمة على خلق من أهل السماوات والأرض إلا وبدائعها من الله ، فشكر الله عن نفسه وعن غيره ، فهذا غاية الشكر ،
وسئل عن الصبر ، قال : هو المقام على ما يرضي الله تبارك وتعالى بترك الجزع وحبس النفس في مواضع العبودية مع نفي الجزع ، فقيل له :
فما التصبر ؟ قال : حمل النفس على المكاره ، وتجرع المرارات ، وتحمل المؤن ، واحتمال المكابدات لتمحيص الجنايات ، وقبول التوبة ، لأن مطلب المتصبر تمحيص الجنايات رجاء الثواب ، ومطلب الصابر بلوغ ذرى الغايات ، والمتصبر يجد كثيرا من الآلام ، والصابر سقط عنه عظيم المكابدات ; لأن مطلبه العمل على الطيبة والسماحة لعلمه بأن الله ناظر إليه في صبره ، وأنه يعينه ، وأن صبره لمولاه لما يرضي مولاه عنه ، فاحتمل المؤن ، وفيه يقول الحكيم :
رضيت وقد أرضى إذا كان مسخطي من الأمر ما فيه رضا من له الأمر وأشجيت أيامي بصبر حلون لي
عواقبه والصبر مثل اسمه صبر
قيل : فكيف
السبيل إلى مقام الرضا ؟ قال : علم القلب بأن المولى عدل في قضائه غير متهم ، وأن اختيار الله له خير له من اختياره لنفسه ، فحينئذ أبصرت العقول وأيقنت القلوب ، وعلمت النفوس ، وشهدت لها العلوم أن الله أجرى بمشيئته ما علم أنه خير لعبده في اختياره ومحبته ، وعلمت القلوب أن العدل من واحد ليس كمثله شيء ، فخرست الجوارح من الاعتراض على من قد علمت أنه عدل في قضائه غير متهم في حكمه ، فسر القلب من قضائه .