أما قوله تعالى : (
فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : (
فليس مني ) كالزجر ، يعني ليس من أهل ديني وطاعتي ، ونظيره قوله تعالى : (
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) [ التوبة : 71 ] ثم قال قبل هذا : (
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ) [ التوبة : 67 ] وأيضا نظيره قوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011968ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا " أي ليس على ديننا ومذهبنا ، والله أعلم .
المسألة الثانية : قال أهل اللغة (
لم يطعمه ) أي لم يذقه ، وهو من الطعم ، وهو يقع على الطعام والشراب هذا ما قاله أهل اللغة ، وعندي إنما اختير هذا اللفظ لوجهين من الفائدة :
أحدهما : أن الإنسان إذا عطش جدا ، ثم شرب الماء وأراد وصف ذلك الماء بالطيب واللذة قال : إن هذا الماء كأنه الجلاب ، وكأنه عسل فيصفه بالطعوم اللذيذة ، فقوله : (
ومن لم يطعمه ) معناه أنه وإن بلغ به العطش إلى حيث يكون ذلك الماء في فمه كالموصوف بهذه الطعوم الطيبة فإنه يجب عليه الاحتراز عنه ، وأن لا يشربه .
والثاني : أن من جعل الماء في فمه وتمضمض به ثم أخرجه من الفم ، فإنه يصدق عليه أنه ذاقه وطعمه ، ولا يصدق عليه أنه شربه ، فلو قال : ومن لم يشربه فإنه مني كان المنع مقصورا على الشرب ، أما لما قال : (
ومن لم يطعمه ) كان المنع حاصلا في الشرب وفي المضمضة ، ومعلوم أن هذا التكليف أشق ، وأن الممنوع من شرب الماء إذا تمضمض به وجد نوع خفة وراحة .
المسألة الثالثة : أنه تعالى قال في أول الآية : (
فمن شرب منه فليس مني ) ثم قال بعده : (
ومن لم يطعمه ) وكان ينبغي أن يقال : ومن لم يطعم منه ليكون آخر الآية مطابقا أولها ، إلا أنه ترك ذلك اللفظ ،
[ ص: 154 ] واختير هذا لفائدة ، وهي أن الفقهاء اختلفوا في أن
من حلف لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : لا يحنث إلا إذا كرع من النهر ، حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث ، لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربه متصلا بذلك الشيء ، وهذا لا يحصل إلا بأن يشرب من النهر ، وقال الباقون إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث ، لأن ذلك وإن كان مجازا إلا أنه مجاز معروف مشهور .
إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله : (
فمن شرب منه فليس مني ) ظاهره أن يكون النهي مقصورا على الشرب من النهر ، حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلا تحت النهي ، فلما كان هذا الاحتمال قائما في اللفظ الأول ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام ، فقال : (
ومن لم يطعمه فإنه مني ) أضاف الطعم والشرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الإبهام .