[ ص: 160 ] أما قوله تعالى : (
وآتاه الله الملك والحكمة ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم آتاه الله الملك والنبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة ، وبذل النفس في سبيل الله ، مع أنه تعالى كان عالما بأنه صالح لتحمل أمر النبوة ، والنبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى : (
ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين ) [ الدخان : 32 ، 33 ] وقال : (
الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] وظاهر هذه الآية يدل أيضا على ذلك ؛ لأنه تعالى لما حكى عن
داود أنه قتل
جالوت ، قال بعده : (
وآتاه الله الملك والحكمة ) والسلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة ، يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة ، وقال الأكثرون : إن
النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ، بل ذلك محض التفضل والإنعام ، قال تعالى : (
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) [ الحج : 75 ] .
المسألة الثانية : قال بعضهم : ظاهر الآية يدل على أن
داود حين قتل
جالوت آتاه الله الملك والنبوة ، وذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك والنبوة عقيب ذكره لقتل
داود جالوت ، وترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وبيان المناسبة أنه عليه السلام لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع والحجر ، كان ذلك معجزا ، لا سيما وقد تعلقت الأحجار معه ، وقالت : خذنا فإنك تقتل
جالوت بنا ، فظهور المعجز يدل على النبوة ، وأما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل ، فلا شك أن النفوس تميل إليه وذلك يقتضي حصول الملك له ظاهرا . وقال الأكثرون : إن حصول الملك والنبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله
الضحاك ، قالوا : والروايات وردت بذلك ، قالوا : لأن الله تعالى كان قد عين
طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته ، والمشهور في أحوال
بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان
أشمويل ، وملك ذلك الزمان
طالوت ، فلما توفي
أشمويل أعطى الله تعالى النبوة لداود ، ولما مات طالوت أعطى الله تعالى الملك لداود ، فاجتمع الملك والنبوة فيه .
المسألة الثالثة :
الحكمة : هي وضع الأمور مواضعها على الصواب والصلاح ، وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة ههنا النبوة ، قال تعالى : (
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) [ النساء : 54 ] وقال فيما بعث به نبيه عليه السلام : (
ويعلمهم الكتاب والحكمة ) [ آل عمران : 164 ] .
فإن قيل : فإذا كان المراد من الحكمة النبوة ، فلم قدم الملك على الحكمة ؟ مع أن الملك أدون حالا من النبوة .
قلنا : لأن الله تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي
داود عليه السلام إلى المراتب العالية ، وإذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي ، فكل ما كان أكثر تأخرا في الذكر كان أعلى حالا وأعظم رتبة .
أما قوله تعالى : (
وعلمه مما يشاء ) ففيه وجوه :
أحدها : أن المراد به ما ذكره في قوله : (
وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ) [ الأنبياء : 80 ] وقال : (
وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد ) [ سبأ : 10 ، 11 ] .
وثانيها : أن المراد كلام الطير والنمل ، قال تعالى حكاية عنه : (
علمنا منطق الطير ) [ النمل : 16 ] .
[ ص: 161 ] وثالثها : أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا وضبط الملك ، فإنه ما ورث الملك من آبائه ، لأنهم ما كانوا ملوكا بل كانوا رعاة .
ورابعها : علم الدين ، قال تعالى : (
وآتينا داود زبورا ) [ النساء : 163 ] وذلك لأنه كان حاكما بين الناس ، فلا بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم والقضاء . وخامسها : الألحان الطيبة ، ولا يبعد حمل اللفظ على الكل .
فإن قيل : إنه تعالى لما ذكر أنه آتاه الحكمة ، وكان المراد بالحكمة النبوة ، فقد دخل العلم في ذلك ، فلم ذكر بعده (
وعلمه مما يشاء ) ؟
قلنا : المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم ، سواء كان نبيا أو لم يكن ، ولهذا السبب قال
لمحمد صلى الله عليه وسلم : (
وقل رب زدني علما ) [ طه : 114 ] ثم قال تعالى : (
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) .
اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع
بجالوت وجنوده زال بما كان من
طالوت وجنوده ، وبما كان من
داود من قتل
جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب ، وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض ، فقال : (
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
ابن كثير وأبو عمرو (
ولولا دفع الله ) بغير ألف ، وكذلك في سورة الحج (
ولولا دفع الله ) [ الحج : 4 ] وقرآ جميعا : ( إن الله يدفع عن الذين آمنوا ) بغير ألف ووافقهما
عاصم وحمزة والكسائي وابن
عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرءوا (
إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) بالألف ، وقرأ
نافع ( ولولا دفاع الله ) و (
إن الله يدافع ) بالألف .
إذا عرفت هذه الروايات فنقول : أما من قرأ : ( ولولا دفع الله ) ، ( إن الله يدافع ) فوجهه ظاهر ، وأما من قرأ : ( ولولا دفاع الله ) ، (
إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة ، وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعا لصاحبه ومانعا له من فعله ، وذلك من العبد في حق الله تعالى محال ، وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين :
أحدهما : أنه مصدر لدفع ، تقول : دفعته دفعا ودفاعا ، كما تقول : كتبته كتبا وكتابا ، قالوا : وفعال كثيرا ما يجيء مصدرا للثلاثي من فعل وفعل ، تقول : جمح جماحا ، وطمح طماحا ، وتقول : لقيته لقاء ، وقمت قياما ، وعلى هذا التأويل كان قوله : ( ولولا دفاع الله ) معناه ولولا دفع الله .
والقول الثاني : قول من جعل (دفاع) من دافع ، فالمعنى
أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات ، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة ، كما قال : (
يحاربون الله ورسوله ) [ المائدة : 33 ] ، (
شاقوا الله ) [ الأنفال : 13 ] وكما قال : (
قاتلهم الله ) [ التوبة : 30 ] ونظائره والله أعلم .
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به ، فقوله : (
ولولا دفع الله الناس بعضهم ) إشارة إلى المدفوع ، وقوله : ( ببعض ) إشارة إلى المدفوع به ، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية ، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا ، ويحتمل أن يكون مجموعهما .
[ ص: 162 ] أما القسم الأول : وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر ، أو إلى الفسق ، أو إليهما ، فلنذكر هذه الاحتمالات .
الاحتمال الأول : أن يكون المعنى : ولولا
دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض ، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى ، فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى : (
كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) [ إبراهيم : 1 ] .
والاحتمال الثاني : أن يكون المراد : ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض ، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على ما قال تعالى : (
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [ آل عمران : 110 ] ويدخل في هذا الباب : الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ، ونظيره قوله تعالى : (
ادفع بالتي هي أحسن السيئة ) [ المؤمنون : 96 ] وفي موضع آخر : (
ويدرءون بالحسنة السيئة ) [ الرعد : 22 ] .
الاحتمال الثالث : ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض ، واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام ، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم ، وتقريره : أن
الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده ، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا ، ولا يبني هذا لذاك ، ولا ينسج ذاك لهذا ، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد ، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد ، فلهذا قيل :
الإنسان مدني بالطبع ، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولا ، والمقاتلة ثانيا ، فلا بد في
الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق ، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات ، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق ، فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع ، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة ، والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام .
واعلم أنه كما
لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام "
الإسلام والسلطان أخوان توءمان " وقال أيضا : "
الإسلام أمير ، والسلطان حارس ، فما لا أمير له فهو منهزم ، وما لا حارس له فهو ضائع " ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم ، ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله : (
لفسدت الأرض ) أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي ، وذلك يسمى فسادا قال الله تعالى : (
ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) [ البقرة : 205 ] وقال : (
أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ) [ القصص : 19 ] وقال : (
إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) [ غافر : 26 ] وقال : (
أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ) [ الأعراف : 127 ] وقال : (
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) [ الروم : 41 ] وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج : (
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد ) [ الحج : 40 ] .
الاحتمال الرابع : ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار ، لفسدت الأرض ولهلكت بمن
[ ص: 163 ] فيها ، وتصديق هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي ، وبمن يزكي عمن لا يزكي ، وبمن يصوم عمن لا يصوم ، وبمن يحج عمن لا يحج ، وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن قوله تعالى : (
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا ) [ الكهف : 82 ] وقال تعالى : (
ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ) [ الفتح : 25 ] إلى قوله : (
لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) [ الفتح : 25 ] وقال : (
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [ الأنفال : 33 ] ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله : (
لفسدت الأرض ) أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة .
والاحتمال الخامس : أن يكون اللفظ محمولا على الكل ، لأن بين هذه الأقسام قدرا مشتركا وهو دفع المفسدة ، فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه .