المسألة الثالثة : قال القاضي : هذه الآية من أقوى ما يدل على
بطلان الجبر ، لأنه إذا كان الفساد من خلقه فكيف يصلح أن يقول تعالى : (
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ويجب أن لا يكون على قولهم لدفاع الناس بعضهم ببعض تأثير في زوال الفساد وذلك لأن -على قولهم- الفساد إنما لا يقع بسبب أن لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى الناس .
والجواب : أن الله تعالى لما كان عالما بوقوع الفساد ، فإذا صح مع ذلك العلم أن لا يفعل الفساد كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد ، فيلزم أن يكون قادرا على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال .
أما قوله : (
ولكن الله ذو فضل على العالمين ) فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى ، فقالوا : لو لم يكن فعل العبد خلقا لله تعالى ، لم يكن دفع المحقين شر المبطلين فضلا من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى (
ولكن الله ذو فضل على العالمين ) عقيب قوله : (
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع ، فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره .
فإن قالوا : يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر .
قلنا : كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع ، فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا ، والله أعلم .
(
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين )
قوله تعالى : (
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين )
اعلم أن قوله : ( تلك ) إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك
طالوت ، وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء ، وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ، ولا
[ ص: 164 ] شك أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على
كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته .
فإن قيل : لم قال : (تلك) ولم يقل : ( هذه ) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر ؟
قلنا : قد بينا في تفسير قوله : (
ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [ البقرة : 2 ] أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا ، وأيضا فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشيء الذي انقضى ومضى ، فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال : ( تلك ) .
أما قوله تعالى : ( نتلوها ) يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك ، لكنه تعالى جعل تلاوة
جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه ، وهذا تشريف عظيم
لجبريل عليه السلام ، وهو كقوله : (
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ] .
أما قوله : ( بالحق ) ففيه وجوه :
أحدها : أن
المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها
محمد صلى الله عليه وسلم ، وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد ، كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة .
وثانيها : ( بالحق ) أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب ، لأنه في كتبهم ، كذلك من غير تفاوت أصلا .
وثالثها : إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة .
ورابعها : (
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ) أي يجب أن يعلم أن
نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى ، وليس بسبب إلقاء الشياطين ، ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة .
ثم قال : (
وإنك لمن المرسلين ) وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه : أحدها : أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة ، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى .
وثانيها : أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في
بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم ، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالف عليك ، لأنك مثلهم ، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع ، لا على سبيل الإكراه ، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم ، والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظهر من الكفار والمنافقين ، ويكون قوله : (
وإنك لمن المرسلين ) كالتنبيه على ذلك .