ثم قال تعالى : (
ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ) وفيه مسائل :
[ ص: 173 ] المسألة الأولى : تعلق هذه بما قبلها ، هو أن الرسل بعدما جاءتهم البينات ، ووضحت لهم الدلائل والبراهين ، اختلفت أقوامهم ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا .
المسألة الثانية : احتج القائلون بأن
كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية ، وقالوا : تقدير الآية : ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا ، والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال ، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم ، فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئة عدم الاقتتال مفقودة ، بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال ، ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية ، فدل ذلك على أن
الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته ، وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى .
وأما
المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال ، وقالوا : المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى ، وهذا المقصود يحصل بأن يقال : إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال : لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال : لو شاء لمنعهم من القتال جبرا وقسرا وإذا كان كذلك فقوله : (
ولو شاء الله ) المراد منه هذه الأنواع من المشيئة ، وهذا كما يقال : لو شاء الإمام لم يعبد
المجوس النار في مملكته ، ولم تشرب
النصارى الخمر ، والمراد منه المشيئة التي ذكرناها ، وكذا ههنا ، ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال : إذا كانت المشيئة تقع على وجوه ، وتنتفي على وجوه ؛ لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص ، لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية .
والجواب : أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة ، والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة ، لا من حيث إنها مشيئة خاصة ، فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلا ، وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة ، وهي إما مشيئة الهلاك ، أو مشيئة سلب القوى والقدر ، أو مشيئة القهر والإجبار ، تقييد للمطلق وهو غير جائز ، وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع ، وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالما بوقوع الاقتتال ، والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات ، وبين السلب والإيجاب ، فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال ، فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم ، والبرهان القاطع على ضد قولهم ، وبالله التوفيق .
ثم قال : (
ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى : ولو شاء لم يختلفوا ، وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا ، وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا ، وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي ، لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل ، والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة ، وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي ، وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة ، فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي ، وواجب عند حصول الداعي ، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعا للتسلسل ، فكانت الآية دالة أيضا من هذا الوجه على صحة مذهبنا .
ثم قال : (
ولو شاء الله ما اقتتلوا ) فإن قيل : فما الفائدة في التكرير ؟
قلنا : قال
الواحدي رحمه الله تعالى : إنما كرره تأكيدا للكلام وتكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من
[ ص: 174 ] عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى .
ثم قال : (
ولكن الله يفعل ما يريد ) فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء ، لا اعتراض عليه في فعله واحتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين ، وقالوا : لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن ، ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد ، فوجب أن يكون
الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى ، وأيضا لما دل على أنه يفعل كل ما يريد ، فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان ، ولكانوا مؤمنين ، ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم ، فكانت هذه الآية دالة على مسألة
خلق الأعمال ، وعلى مسألة إرادة الكائنات ،
والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون : المراد : يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه ، وهذا ضعيف : لوجوه :
أحدها : أنه تقييد للمطلق .
والثاني : أنه على هذا التقييد تصير الآية بيانا للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله .
الثالث : أن كل أحد كذلك ، فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلا على كمال قدرته وعلو مرتبته ، والله أعلم .