أما قوله تعالى : (
قد تبين الرشد من الغي ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : بان الشيء واستبان وتبين إذا ظهر ووضح ، ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين ، وعندي أن الإيضاح والتعريف إنما سمي بيانا لأنه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره ، والرشد في اللغة معناه إصابة الخير ، وفيه لغتان : رشد ورشد ، والرشاد مصدر أيضا كالرشد ، والغي نقيض الرشد ، يقال : غوى يغوي غيا وغواية ، إذا سلك غير طريق الرشد .
المسألة الثانية : (
تبين الرشد من الغي ) أي : تميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة ، قال
القاضي : ومعنى " قد تبين الرشد " أي : أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة ، لا أن كل مكلف تنبه ؛ لأن المعلوم ذلك . وأقول : قد ذكرنا أن معنى " تبين " انفصل وامتاز ، فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين ، وعلى هذا كان اللفظ مجرى على ظاهره .
أما قوله تعالى : (
فمن يكفر بالطاغوت ) فقد قال النحويون :
الطاغوت وزنه فعلوت ، نحو جبروت ، والتاء زائدة وهي مشتقة من طغا ، وتقديره طغووت ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين كعادتهم في القلب ، نحو : الصاقعة والصاعقة ، ثم قلبت الواو ألفا لوقوعها في موضع حركة وانفتاح ما قبلها ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد في الطاغوت : الأصوب عندي أنه جمع ، قال
أبو علي الفارسي : وليس الأمر عندنا كذلك ، وذلك لأن الطاغوت مصدر كالرغبوت والرهبوت والملكوت ، فكما أن هذه الأسماء آحاد ، كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع ، ومما يدل على أنه مصدر مفرد قوله : (
أولياؤهم الطاغوت ) [البقرة : 257] فأفرد في موضع الجمع ، كما يقال : هم رضا ، هم عدل ، قالوا : وهذا اللفظ يقع على الواحد وعلى الجمع ، أما في الواحد فكما في قوله تعالى : (
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) [النساء : 60] وأما في الجمع فكما في
[ ص: 15 ] قوله تعالى : (
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ) [البقرة : 257] وقالوا : الأصل فيه التذكير ، فأما قوله : (
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) [الزمر : 17] فإنما أنثت إرادة الآلهة .
إذا عرفت هذا فنقول : ذكر المفسرون فيه خمسة أقوال :
الأول : قال
عمر nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد وقتادة : هو الشيطان .
الثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : الكاهن .
الثالث : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية : هو الساحر .
الرابع : قال بعضهم : الأصنام .
الخامس : أنه مردة الجن والإنس وكل ما يطغى .
والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسبابا للطغيان كما في قوله : (
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) [إبراهيم : 36] .
أما قوله : (
ويؤمن بالله ) ففيه إشارة إلى أنه
لا بد للكافر من أن يتوب أولا عن الكفر ، ثم يؤمن بعد ذلك .
أما قوله : (
فقد استمسك بالعروة الوثقى ) فاعلم أنه يقال : استمسك بالشيء إذا تمسك به ، والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو والكوز ، وإنما سميت بذلك لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به ، والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ؛ لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته ، فكذا ههنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها ، لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى .
أما قوله : (
لا انفصام لها ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الفصم كسر الشيء من غير إبانة ، والانفصام مطاوع الفصم ، فصمته فانفصم ، والمقصود من هذا اللفظ المبالغة ؛ لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى .
المسألة الثانية : قال النحويون : نظم الآية : بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تضمر " التي " و " الذي " و " من " وتكتفي بصلاتها منها ، قال
سلامة بن جندل :
والعاديات أسامي للدماء بها كأن أعناقها أنصاب ترحيب
يريد : العاديات التي ، قال الله : (
وما منا إلا له مقام معلوم ) [الصافات : 164] أي : من له .
ثم قال : (
والله سميع عليم ) وفيه قولان :
القول الأول : أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين ، وقول من يتكلم بالكفر ، ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث .
والقول الثاني : روى
عطاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله يحب إسلام أهل الكتاب من
اليهود الذين كانوا حول
المدينة ، وكان يسأل الله تعالى ذلك سرا وعلانية ، فمعنى قوله : (
والله سميع عليم ) يريد لدعائك يا
محمد بحرصك عليه واجتهادك .