أما قوله تعالى : (
إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور ، وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة ، والظاهر أنه متى ادعى الرسالة ، فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلها ، ألا ترى أن
موسى عليه السلام لما قال : (
إنا رسول رب العالمين ) [الشعراء : 16] ، قال
فرعون : (
وما رب العالمين ) [الشعراء : 23] فاحتج
موسى عليه السلام على إثبات الإلهية بقوله : (
رب السماوات والأرض ) [الشعراء : 24] فكذا ههنا الظاهر أن
إبراهيم ادعى الرسالة ، فقال
نمروذ : من ربك ؟ فقال
إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، إلا أن تلك المقدمة حذفت ، لأن الواقعة تدل عليها .
المسألة الثانية : دليل
إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة ، وذلك لأنه
لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين ، والإحياء والإماتة كذلك ؛ لأن الخلق عاجزون عنهما ، والعلم بعد الاختيار ضروري ، فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم ، وذلك المؤثر إما أن يكون موجبا أو مختارا ، والأول باطل ، لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر ، فكان يجب أن لا يتبدل الإحياء بالإماتة ، وأن لا تتبدل الإماتة بالإحياء ، والثاني وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية ، وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الإحياء والإماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى ، وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله : (
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [المؤمنون : 12] إلى آخره ، وقوله : (
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين ) [التين : 4 ، 5] وقال تعالى : (
الذي خلق الموت والحياة ) [الملك : 2] .
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى : (
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) [البقرة : 28] وقال : (
الذي خلق الموت والحياة ) [الملك : 2] وحكي عن
إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى : (
والذي يميتني ثم يحيين ) [الشعراء : 81] فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت ، حيث قال : (
ربي الذي يحيي ويميت ) [البقرة : 258] ؟ .
والجواب : لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في
[ ص: 22 ] غاية الوضوح ، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإنسان عليها أتم ، فلا جرم وجب تقديم الحياة ههنا في الذكر .