[ ص: 39 ] (
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم )
قوله تعالى : (
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) .
اعلم أنه سبحانه لما ذكر من بيان أصول العلم بالمبدأ وبالمعاد ومن دلائل صحتهما ما أراد أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف .
فالحكم الأول : في بيان التكاليف المعتبرة في
إنفاق الأموال ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه :
الأول : قال القاضي - رحمه الله - : إنه تعالى لما أجمل في قوله : (
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) [البقرة : 245] فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء والإماتة من حيث لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق ؛ لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب ، لكان الإنفاق في سائر الطاعات عبثا ، فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق : قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمتي عليك بالإحياء والإقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة والإثابة ، فليكن علمك بهذه الأحوال داعيا إلى إنفاق المال ، فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثم ضرب لذلك الكثير مثلا ، وهو أن من بذر حبة أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فصارت الواحدة سبعمائة .
الوجه الثاني في بيان النظم : ما ذكره
الأصم ، وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته .
والوجه الثالث : لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين ، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت ، بين
مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت .
المسألة الثانية : في الآية إضمار ، والتقدير : مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة . وقيل : مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع حبة .
المسألة الثالثة : معنى (
ينفقون أموالهم في سبيل الله ) يعني في دينه ، قيل : أراد النفقة في الجهاد خاصة ، وقيل : جميع أبواب البر ، ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير ، ومن صرف المال إلى الصدقات ، ومن إنفاقها في المصالح ؛ لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته ؛ لأن كل ذلك " إنفاق في سبيل الله " .
فإن قيل : فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها ؟ .
قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن المقصود من الآية أنه لو علم إنسان يطلب الزيادة والربح أنه
[ ص: 40 ] إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ولا التقصير فيه ، فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر في الآخرة عند الله أن لا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة ، وإذا كان هذا المعنى معقولا سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم يوجد كان المعنى حاصلا مستقيما ، وهذا قول
القفال - رحمه الله - وهو حسن جدا .
والجواب الثاني : أنه شوهد ذلك في سنبلة الجاورس ، وهذا الجواب في غاية الركاكة .
المسألة الرابعة : كان
أبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون التاء في السين في قوله : (
أنبتت سبع سنابل ) لأنهما حرفان مهموسان ، والباقون بالإظهار على الأصل .
ثم قال : (
والله يضاعف لمن يشاء ) وليس فيه بيان كمية تلك المضاعفة ، ولا بيان من يشرفه الله بهذه المضاعفة ، بل يجب أن يجوز أنه تعالى يضاعف لكل المتقين ، ويجوز أن يضاعف لبعضهم من حيث يكون إنفاقه أدخل في الإخلاص ، أو لأنه تعالى بفضله وإحسانه يجعل طاعته مقرونة بمزيد القبول والثواب .
ثم قال : (
والله واسع ) أي : واسع القدرة على المجازاة على الجود والإفضال عليهم ، بمقادير الإنفاقات ، وكيفية ما يستحق عليها ، ومتى كان الأمر كذلك لم يصر عمل العامل ضائعا عند الله تعالى .