أما قوله تعالى : (
ويكفر عنكم من سيئاتكم ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : التكفير في اللغة التغطية والستر ، ورجل مكفر في السلاح مغطى فيه ، ومنه يقال : كفر عن يمينه ، أي ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة ، والكفارة ستارة لما حصل من الذنب .
المسألة الثانية : قرأ
ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية
أبي بكر " نكفر " بالنون ورفع الراء وفيه وجوه :
أحدها : أن يكون عطفا على محل ما بعد الفاء .
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر .
والثالث : أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأ بمستأنفة منقطعة عما قبلها .
والقراءة الثانية قراءة
حمزة ونافع والكسائي بالنون والجزم ، ووجهه أن يحمل الكلام على موضع قوله : (
فهو خير لكم ) فإن موضعه جزم ، ألا ترى أنه لو قال : وإن تخفوها تكن أعظم لثوابكم ، لجزم فيظهر أن قوله : (
خير لكم ) في موضع جزم ، ومثله في الحمل على موضع الجزم قراءة من قرأ ( من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم ) [الأعراف : 186] بالجزم .
والقراءة الثالثة قراءة
ابن عامر وحفص عن
عاصم " يكفر " بالياء وكسر الفاء ورفع الراء ، والمعنى : يكفر الله أو يكفر الإخفاء ، وحجتهم أن ما بعده على لفظ الإفراد ، وهو قوله : (
والله بما تعملون خبير ) فقوله ( يكفر ) يكون أشبه بما بعده ، والأولون أجابوا وقالوا : لا بأس بأن يذكر لفظ الجمع أولا ثم لفظ الإفراد ثانيا كما أتى بلفظ الإفراد أولا والجمع ثانيا في قوله : (
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) [الإسراء : 1] ثم قال : (
وآتينا موسى الكتاب ) [الإسراء : 2] .
ونقل صاحب " الكشاف " قراءة رابعة " وتكفر " بالتاء مرفوعا ومجزوما والفاعل الصدقات .
وقراءة خامسة وهي قراءة
الحسن بالتاء والنصب بإضمار " أن " ومعناها : إن تخفوها يكن خيرا لكم ، وأن نكفر عنكم سيئاتكم فهو خير لكم .
[ ص: 67 ] المسألة الثالثة : في دخول " من " في قوله : (
من سيئاتكم ) وجوه :
أحدها : المراد : ونكفر عنكم بعض سيئاتكم لأن السيئات كلها لا تكفر بذلك ، وإنما يكفر بعضها ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغواء بارتكابها إذا علم أنها مكفرة ، بل الواجب أن يكون العبد في كل أحواله بين الخوف والرجاء وذلك إنما يكون مع الإبهام .
والثاني : أن يكون " من " بمعنى من أجل ، والمعنى : ونكفر عنكم من أجل ذنوبكم ، كما تقول : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك .
والثالث : أنها صلة زائدة كقوله (
فيها من كل الثمرات ) [البقرة : 266] والتقدير : ونكفر عنكم جميع سيئاتكم . والأول أولى وهو الأصح .
ثم قال : (
والله بما تعملون خبير ) وهو إشارة إلى
تفضيل صدقة السر على العلانية ، والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته ، فقد حصل مقصودكم في السر ، فما معنى الإبداء ! فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء .