المسألة الثالثة : اعلم أن
الربا قسمان : ربا النسيئة ، وربا الفضل .
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ، ويكون رأس المال باقيا ، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال ، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل ، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به .
وأما ربا النقد فهو أن يباع من من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك .
إذا عرفت هذا فنقول : المروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة ، وكان يجوز بالنقد ، فقال له
أبو سعيد الخدري : شهدت ما لم تشهد ، أو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تسمع . ثم روي أنه رجع عنه ،
قال nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين : كنا في بيت ومعنا عكرمة ، فقال رجل : يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، فقال : إنما كنت استحللت التصرف برأيي ، ثم بلغني أنه صلى الله عليه وسلم حرمه ، فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله ، وحجة
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن قوله : (
وأحل الله البيع ) يتناول
بيع الدرهم بالدرهمين نقدا ، وقوله : (
وحرم الربا ) لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة ، وليست كل زيادة محرمة ، بل قوله : (
وحرم الربا ) إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا ، وذلك هو ربا النسيئة ، فكان قوله : (
وحرم الربا ) مخصوصا بالنسيئة ، فثبت أن قوله : (
وأحل الله البيع ) يتناول ربا النقد ، وقوله (
وحرم الربا ) لا يتناوله ، فوجب أن يبقى على الحل ، ولا يمكن أن يقال : إنما يحرمه
[ ص: 76 ] بالحديث ، لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز ، وهذا هو عرف
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا ؟
وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين ، أما القسم الأول فبالقرآن ، وأما ربا النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة ، ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء : حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة ، بل ثابتة في غيرها ، وقال نفاة القياس : بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه :
الحجة الأولى : أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة ، فلو كان الحكم ثابتا في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال : لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلا ، أو قال : لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلا ، فإن هذا الكلام يكون أشد اختصارا ، وأكثر فائدة ، فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة ، علمنا أن حكم الحرمة مقصور عليها فقط .
الحجة الثانية : أنا بينا أن قوله تعالى : (
وأحل الله البيع ) يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة ، ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها ، فكان هذا تخصيصا لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد ، وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة التي ثبت الحكم فيها بخبر الواحد ، ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد ، وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن ، فكان هذا ترجيحا للأضعف على الأقوى ، وإنه غير جائز .
الحجة الثالثة : أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص ، لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص ، وذلك غير جائز ، أما أولا : فلأنه يقتضي تعليل حكم الله ، وذلك محال على ما ثبت في الأصول ، وأما ثانيا : فلأن الحكم في مورد النص معلوم ، واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز ، وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة ، بل هي ثابتة في غيرها ، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب .
فالقول الأول : وهو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه : أن
العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس ، وفي الذهب والفضة النقدية .
والقول الثاني : قول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رضي الله عنه : أن كل ما كان مقدرا ففيه الربا ، والعلة في الدراهم والدنانير الوزن ، وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس .
والقول الثالث : قول
مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت ، وهو الملح .
والقول الرابع : وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12873عبد الملك بن الماجشون : أن كل ما ينتفع به ففيه الربا ، فهذا ضبط مذاهب الناس في
حكم الربا ، والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير .