أما
قوله تعالى : ( إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : التخبط معناه الضرب على غير استواء ، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه : إنه يخبط خبط عشواء ، وخبط البعير للأرض بأخفافه ، وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الإدهاش ، وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة ، ويقال : به خبطة من جنون ، والمس الجنون ، يقال : مس الرجل فهو ممسوس وبه مس ، وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، ثم سمي الجنون مسا ، كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد ، ثم فيه سؤالان :
السؤال الأول : التخبط تفعل ، فكيف يكون متعديا ؟.
الجواب : تفعل بمعنى فعل كثيرا ، نحو تقسمه بمعنى قسمه ، وتقطعه بمعنى قطعه .
السؤال الثاني : بم تعلق قوله : (
من المس ) ؟.
[ ص: 78 ] قلنا : فيه وجهان أحدهما : بقوله (
لا يقومون ) والتقدير : لا يقومون من المس الذي لهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان . والثاني : أنه متعلق بقوله ( يقوم ) والتقدير : لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس .
المسألة الثانية : قال
الجبائي : الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة ؛ لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل ؛ لأن
الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه :
أحدها : قوله تعالى حكاية عن الشيطان (
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ إبراهيم : 22] وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء . والثاني : الشيطان إما أن يقال : إنه كثيف الجسم ، أو يقال : إنه من الأجسام اللطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد ، إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفا ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها ، وذلك جهالة عظيمة ؛ ولأنه لو كان جسما كثيفا فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان ، وأما إن كان جسما لطيفا كالهواء ، فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة ، فيمتنع أن يكون قادرا على أن يصرع الإنسان ويقتله . الثالث : لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوة .
الرابع : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان ، ولم لا يغصب أموالهم ، ويفسد أحوالهم ، ويفشي أسرارهم ، ويزيل عقولهم ؟ وكل ذلك ظاهر الفساد ، واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين : الأول :
ما روي أن الشياطين في زمان
سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات .
والجواب عنه : أنه تعالى كلفهم في زمن
سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات
لسليمان عليه السلام . والثاني : أن هذه الآية وهي قوله : (
يتخبطه الشيطان ) صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسه .
والجواب عنه : أن الشيطان يمسه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع ، وهو كقول
أيوب عليه السلام (
أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) [ ص : 41] وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة ؛ لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع ، وغلبة السوداء عليه ، بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترئ فيصرع عند تلك الوسوسة ، كما يصرع الجبان من الموضع الخالي ، ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين وأهل الحزم والعقل ، وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ فهذا جملة كلام
الجبائي في هذا الباب ، وذكر
القفال فيه وجها آخر ، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن ، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا ، وأيضا من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان ، كما في قوله تعالى : (
طلعها كأنه رءوس الشياطين ) [ الصافات : 65] .
المسألة الثالثة : للمفسرين في الآية أقوال : الأول : أن
آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا ، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا ، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا ، فعلى هذا معنى
[ ص: 79 ] الآية : أنهم يقومون مجانين ، كمن أصابه الشيطان بجنون .
والقول الثاني : قال
ابن منبه : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله (
يخرجون من الأجداث سراعا ) [ المعارج : 43] إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون ، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا ، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ، ويسقطون ، ويريدون الإسراع ، ولا يقدرون ، وهذا القول غير الأول ؛ لأنه يريد أن أكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن ، وهذا ليس من الجنون في شيء ، ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء
أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم ، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) .
والقول الثالث : أنه مأخوذ من قوله تعالى : (
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ الأعراف : 201] وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، فهذا هو المراد من مس الشيطان ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا ، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى ، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى ، فحدثت هناك حركات مضطربة ، وأفعال مختلفة ، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان , وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجابا بينه وبين الله تعالى ، فالخبط الذي كان حاصلا في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة ، وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا .