أما قوله : (
فمن جاءه موعظة من ربه ) فاعلم أنه ذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ ، وقرأ
أبي والحسن " فمن جاءته موعظة " ثم قال : (
فانتهى ) أي : فامتنع ، ثم قال : (
فله ما سلف ) وفيه مسألتان :
[ ص: 82 ] المسألة الأولى : في التأويل وجهان : الأول : قال
الزجاج : أي : صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية ، وهو كقوله (
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) [ الأنفال : 38] وهذا التأويل ضعيف ؛ لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراما ولا ذنبا ، فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك ، وهو قوله : (
فله ما سلف ) فكيف يكون ذلك ذنبا . الثاني : قال
السدي : له ما سلف أي : له ما أكل من الربا ، وليس عليه رد ما سلف ، فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه ، وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله (
وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ) [ البقرة : 279].
المسألة الثانية : قال
الواحدي : السلف المتقدم ، وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف ، ومنه الأمة السالفة ، والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو ، والسلفة ما يقدم قبل الطعام ، وسلافة الخمر صفوتها ؛ لأنه أول ما يخرج من عصيرها .
أما قوله تعالى : (
وأمره إلى الله ) ففيه وجوه للمفسرين ، إلا أن الذي أقوله : إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا ، أو لم يترك ، والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها .
أما مقدمة الآية فلأن قوله : (
فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى ) ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق ، وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا ، فكان قوله : (
فانتهى ) عائدا إليه ، فكان المعنى : فانتهى عن هذا القول .
وأما مؤخرة الآية فقوله (
ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ومعناه : [ من ] عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الربا (
وأمره إلى الله ) ثم هذا الإنسان إما أن يقال : إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضا عن أكل الربا ، أو ليس كذلك ، فإن كان الأول كان هذا الشخص مقرا بدين الله عالما بتكليف الله ، فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام ، لكن قوله : (
وأمره إلى الله ) ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلا أن يكون مختصا بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، وهو كقوله (
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] فيكون ذلك دليلا ظاهرا على صحة قولنا أن
العفو من الله مرجو .
أما قوله : (
ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) فالمعنى : ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافرا .
واعلم أن قوله : (
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) دليل قاطع في أن
الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله : (
أولئك أصحاب النار ) يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر ، وكذلك قوله : (
هم فيها خالدون ) يفيد الحصر ، وهذا يدل على أن كونه صاحب النار ، وكونه خالدا في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه ، لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع ، وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمنا بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه ، ويجوز أن يعاقبه الله ، وأمره في البابين موكل إلى الله ، ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل
[ ص: 83 ] يخرجه منها ، والله تعالى بين صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله (
وأمره إلى الله ) على جواز
العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه .
ثم قوله : (
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها لأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان ، وهذا بيان شريف وتفسير حسن .