ثم قال تعالى : (
فنظرة إلى ميسرة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف ، والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة ، أو فالذي تعاملونه نظرة .
المسألة الثانية : نظرة أي تأخير ، والنظرة الاسم من الإنظار ، وهو الإمهال ، تقول : بعته الشيء بنظرة وبإنظار ، قال تعالى : (
قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين ) [الأعراف : 14 ، 15 ] (
إلى يوم الوقت المعلوم ) .
المسألة الثالثة : قرئ " فنظرة " بسكون الظاء ، وقرأ
عطاء ( فناظره ) أي فصاحب الحق أي منتظره ، أو صاحب نظرته ، على طريق النسب ، كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أي ذو عشب وذو بقل ، وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة .
المسألة الرابعة : الميسرة مفعلة من اليسر واليسار ، الذي هو ضد الإعسار ، وهو تيسر الموجود من المال ، ومنه يقال : أيسر الرجل فهو موسر ، أي صار إلى اليسر ، فالميسرة واليسر والميسور الغنى .
[ ص: 90 ] المسألة الخامسة : قرأ نافع ( ميسرة ) بضم السين والباقون بفتحها ، وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة ، والمشرفة ، والمشربة ، والمسربة ، والفتح أشهر اللغتين ؛ لأنه جاء في كلامهم كثيرا .
المسألة السادسة : اختلفوا في أن
حكم الإنظار مختص بالربا أو عام في الكل ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا ، وذكر عن
شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل : إنه معسر ، فقال شريح : إنما ذلك في الربا ، والله تعالى قال في كتابه (
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) [ النساء : 58] وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى : (
فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) قالت الإخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا : بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال وطلبوا
بني المغيرة بذلك ، فشكا
بنو المغيرة المعسرة ، وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروهم ، فأنزل الله تعالى : (
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) .
القول الثاني : وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد وجماعة من المفسرين : إنها عامة في كل دين ، واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال : (
وإن كان ذو عسرة ) ولم يقل : وإن كان ذا عسرة ، ليكون الحكم عاما في كل المفسرين ، قال القاضي : والقول الأول أرجح ؛ لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة (
وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ) من غير بخس ولا نقص ، ثم قال في هذه الآية : وإن كان من عليه المال معسرا وجب إنظاره إلى وقت القدرة ؛ لأن النظرة يراد بها التأخر ، فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر ، بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص ، ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى ، وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به ، وهذا قول أكثر الفقهاء
nindex.php?page=showalam&ids=11990كأبي حنيفة ومالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي رضي الله عنهم .
المسألة السابعة : اعلم أنه لا بد من تفسير الإعسار ، فنقول : الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ، ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه ، فلهذا قلنا : من وجد دارا وثيابا لا يعد في ذوي العسرة ، إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها ، ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله ، وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم .
واختلفوا إذا كان قويا هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره ؟ فقال بعضهم : يلزمه ذلك ، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله ، وقال بعضهم : لا يلزمه ذلك ، واختلفوا أيضا إذا كان معسرا ، وقد بذل غيره ما يؤديه ، هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك ، فأما من له بضاعة كسدت عليه ، فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك ، ويؤديه في الدين .
المسألة الثامنة : إذا
علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه ، وأن يطالبه بما له عليه ، فوجب الإنظار إلى وقت اليسار ، فأما إن
كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار ، واعلم أنه إذا
ادعى الإعسار وكذبه الغريم ، فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض ، أو لا يكون كذلك ، وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض ، مثل إتلاف أو صداق أو ضمان ، كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر .