ثم قال تعالى : (
ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ) اعلم أن الله تعالى بين أن
الكتابة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث :
الفائدة الأولى : قوله : (
ذلكم أقسط عند الله ) وفي قوله : ( ذلكم ) وجهان : الأول : أنه إشارة إلى قوله : ( أن تكتبوه ) لأنه في معنى المصدر ، أي ذلك الكتب أقسط . والثاني : قال
القفال رحمه الله : ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا ومعنى (
أقسط عند الله ) أعدل عند الله ، والقسط اسم ، والإقساط مصدر ، يقال : أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطا إذا عدل فهو مقسط ، قال تعالى : (
إن الله يحب المقسطين ) [ المائدة : 42 ] ، ويقال : هو قاسط إذا جار ، قال تعالى : (
وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) ( الجن : 15 ) وإنما كان هذا أعدل عند الله ؛ لأنه
إذا كان مكتوبا كان إلى اليقين والصدق أقرب ، وعن الجهل والكذب أبعد ، فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى : (
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) [الأحزاب : 5] أي أعدل عند الله ، وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم .
[ ص: 102 ] والفائدة الثانية : قوله : (
وأقوم للشهادة ) معنى ( أقوم ) أبلغ في الاستقامة ، التي هي ضد الاعوجاج ، وذلك لأن المنتصب القائم ضد المنحني المعوج .
فإن قيل : مم بني أفعل التفضيل ، أعني : أقسط وأقوم ؟
قلنا : يجوز على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ، ويجوز أن يكون أقسط من قاسط ، وأقوم من قويم .
واعلم أن الكتابة إنما كانت أقوم للشهادة ؛ لأنها سبب للحفظ والذكر ، فكانت أقرب إلى الاستقامة ، والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى : تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى ، والثانية : بتحصيل مصلحة الدنيا ، وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعارا بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا .
والفائدة الثالثة : هي قوله : (
وأدنى ألا ترتابوا ) يعني أقرب إلى
زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين ، والفرق بين الوجهين الأولين وهذا الثالث ، الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة ، فالأول : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين ، والثاني : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا وهذا الثالث : إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير ، أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان ، وهذا الذي قلت هل كان صدقا أو كذبا ، وأما دفع الضر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان ، فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط ، وما أحسن ما فيها من الترتيب .