ثم قال الله تعالى : (
وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الكلام في نظم هذه الآية من وجوه :
الأول : وهو أن
كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، واستكمال القوة النظرية بالعلم ، واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات ، والقوة النظرية أشرف من القوة العملية ، والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن
إبراهيم (
رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ) [ الشعراء : 83 ] فالحكم كمال القوة النظرية (
وألحقني بالصالحين ) كمال القوة العملية ، وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب .
[ ص: 118 ] إذا عرفت هذا فنقول : الأمر في هذه الآية أيضا كذلك ، فقوله : (
كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة ، وقوله (
وقالوا سمعنا وأطعنا ) إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة ، ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون .
والوجه الثاني : من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياما ثلاثة :
الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ ، واليوم الحاضر والبحث عنه يسمى بعلم الوسط ، والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد . والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة
هود (
ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ) [ هود : 123 ] وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة ، لا جرم ذكرها في هذه الآية ، وقوله (
ولله غيب السماوات والأرض ) إشارة إلى
كمال العلم ، وقوله (
وإليه يرجع الأمر كله ) إشارة إلى
كمال القدرة ، فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ ، وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به ، فله أيضا مرتبتان :
البداية والنهاية ، أما البداية فالاشتغال بالعبودية ، وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب ،
وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب ، وذلك هو المسمى بالتوكل ، فذكر هذين المقامين ، فقال : (
فاعبده وتوكل عليه ) [ هود : 123 ] .
وأما علم المعاد فهو قوله : (
وما ربك بغافل عما يعملون ) [ الأنعام : 132 ] أي فيومك غدا سيصل فيه نتائج أعمالك إليك ، فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة ، ونظيرها أيضا قوله سبحانه وتعالى : (
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) [ الصافات : 180 ] وهو إشارة إلى علم المبدأ ، ثم قال : (
وسلام على المرسلين ) [ الصافات : 181 ] وهو إشارة إلى علم الوسط ، ثم قال : (
والحمد لله رب العالمين ) [ الصافات : 182 ] وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة (
دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ) [ يونس : 100 ].
إذا عرفت هذا فنقول : تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة ، فقوله : (
آمن الرسول ) إلى قوله : (
لا نفرق بين أحد من رسله ) إشارة إلى معرفة المبدأ ، وقوله (
وقالوا سمعنا وأطعنا ) إشارة إلى علم الوسط ، وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالما مشتغلا بها ، ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا ، وقوله (
غفرانك ربنا وإليك المصير ) إشارة إلى علم المعاد ، والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك ، وأنوار بهجة السماوات .
الوجه الثالث في النظم : أن المطالب قسمان أحدهما : البحث عن حقائق الموجودات . والثاني : البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر . أما القسم الأول فمستفاد من العقل ، والثاني مستفاد من السمع , والقسم الأول هو المراد بقوله (
والمؤمنون كل آمن بالله ) والقسم الثاني هو المراد بقوله (
وقالوا سمعنا وأطعنا ) .
المسألة الثانية : قال
الواحدي رحمه الله قوله : (
سمعنا وأطعنا ) أي سمعنا قوله وأطعنا أمره ، إلا أنه حذف المفعول ، لأن في الكلام دليلا عليه من حيث مدحوا به .
وأقول : هذا من الباب الذي ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13990عبد القاهر النحوي رحمه الله أن حذف المفعول فيه ظاهرا وتقديرا أولى لأنك إذا جعلت التقدير : سمعنا قوله ، وأطعنا أمره ، فإذن ههنا قول آخر غير قوله ، وأمر آخر يطاع سوى
[ ص: 119 ] أمره ، فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلا أمره ، فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى .
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون : سمعنا وأطعنا ، فقوله : ( سمعنا ) ليس المراد منه السماع الظاهر ؛ لأن ذلك لا يفيد المدح ، بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا ، أي عقلناه وعلمنا صحته ، وتيقنا أن
كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول , والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن ، قال الله تعالى : (
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [ ق : 37 ] والمعنى : لمن سمع الذكرى بفهم حاضر ، وعكسه قوله تعالى : (
كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ) [ لقمان : 7 ] ثم قال بعد ذلك ( وأطعنا ) فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علما وعملا .