(
ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) .
قوله تعالى : (
ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) .
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدعاء وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
الإصر في اللغة : الثقل والشدة ، قال
النابغة :
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا
ثم سمي العهد إصرا لأنه ثقيل ، قال الله تعالى : (
وأخذتم على ذلكم إصري ) [ آل عمران : 81 ] أي عهدي وميثاقي ، والإصر العطف ، يقال : ما يأصرني عليه آصرة ، أي رحم وقرابة ، وإنما سمي العطف إصرا ؛ لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره .
المسألة الثانية : ذكر أهل التفسير فيه وجهين :
الأول : لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من
اليهود ، قال المفسرون : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها ، وكانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة في الدنيا ، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم ، قال الله تعالى : (
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم ) [ النساء : 160 ] وقال تعالى : (
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ) [ النساء : 66 ] ، وقد حرم على المسافرين من قوم
طالوت الشرب من النهر ، وكان عذابهم معجلا في الدنيا ، كما قال : (
من قبل أن نطمس وجوها ) ، وكانوا يمسخون قردة وخنازير ، قال
القفال : ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء
اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة ، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات ، وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم ، قال الله تعالى في صفة هذه الأمة : (
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) [ الأعراف : 157 ] ، وقال عليه السلام : "
رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق " ، وقال الله تعالى : (
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012041بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " .
والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير ، والتقصير موجب للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى ، فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف .
والقول الثاني : لا تحمل علينا عهدا وميثاقا يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة ، وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ ، فيكون القول الأول أولى .
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : دلت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم
[ ص: 128 ] الراحمين ، فما السبب في أن شدد التكليف على
اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد ؟
قالت
المعتزلة : من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان ، مفسدة في حق غيره ،
فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم ، فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة ، وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالبا على طباعهم ، فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ .
أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني ، فنقول : ولماذا خص
اليهود بغلظة الطبع ، وقسوة القلب ودناءة الهمة ، حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم ؟ .
ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال ، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) .