قوله تعالى : (
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) .
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من دعاء المؤمنين ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الطاقة اسم من الإطاقة ، كالطاعة من الإطاعة ، والجابة من الإجابة وهي توضع موضع المصدر .
المسألة الثانية : من الأصحاب من تمسك به في أن
تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزا لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى .
أجاب
المعتزلة عنه من وجوه :
الأول : أن قوله : (
ما لا طاقة لنا به ) أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلا له . قال الشاعر :
إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق
.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012052له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " أي ما يشق عليه .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=40عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012053المريض يصلي جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنب " ، فقوله : فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس ، بل كل الفقهاء يقولون : المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة ، وقال الله تعالى في وصف الكفار (
ما كانوا يستطيعون السمع ) [ هود : 20 ] أي كان يشق عليهم .
الوجه الثاني : أنه تعالى لم يقل : لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به ، بل قال : (
ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له به بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله : (
ولا تحملنا ) حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله : (
ولا تحملنا ) مجازا فيه ، فكان الأول أولى .
[ ص: 129 ] الوجه الثالث : هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه ، لأنه لو دل على ذلك لدل قوله (
رب احكم بالحق ) [ الأنبياء : 112 ] على جواز أن يحكم بباطل ، وكذلك يدل قول
إبراهيم عليه السلام (
ولا تخزني يوم يبعثون ) [ الشعراء : 87 ] على جواز أن يخزي الأنبياء ، وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (
ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [ الأحزاب : 48 ] ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين ، وكذا الكلام في قوله (
لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] هذا جملة أجوبة
المعتزلة .
أجاب الأصحاب فقالوا :
أما الوجه الأول : فمدفوع من وجهين :
الأول : أنه لو كان قوله (
ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) محمولا على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله (
ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) واحدا فتكون هذه الآية تكرارا محضا وذلك غير جائز .
الثاني : أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة ، فقوله (
ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة .
وأما الوجه الثاني : فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف ، قال الله تعالى : (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات ) [ الأحزاب : 72 ] إلى قوله (
وحملها الإنسان ) [ الأحزاب : 72 ] ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله (
ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز .
وأما الوجه الثالث : فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعا لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ، ويصير ذلك جاريا مجرى من يقول في دعائه وتضرعه : ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثا ، كما أن ذلك غير جائز ، فكذا ما ذكرتم .
إذا ثبت هذا فنقول : هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكا في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق .