المسألة الثالثة : اعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب ، وذلك لأن أولئك
النصارى الذين نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل لهم : إما أن تنازعوه في معرفة الإله ، أو في النبوة ، فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولدا وأن
محمدا لا يثبت له ولدا فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية ، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم ،
والحي القيوم يستحيل عقلا أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوة ، فهذا أيضا باطل ، لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على
موسى وعيسى فهو بعينه قائم في
محمد صلى الله عليه وسلم ، وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل هاهنا ، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوة ؟ فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جدا فلننظر هاهنا إلى بحثين :
البحث الأول : ما يتعلق بالإلهيات فنقول :
إنه تعالى حي قيوم ، وكل من كان حيا قيوما يمتنع أن يكون له ولد ، وإنما قلنا : إنه حي قيوم ، لأنه واجب الوجود لذاته ، وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى : (
الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وإذا كان الكل محدثا مخلوقا امتنع كون شيء منها ولدا له وإلها ، كما قال : (
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [ مريم : 93 ] وأيضا لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حيا قيوما ، وثبت أن
عيسى ما كان حيا قيوما لأنه ولد ، وكان يأكل ويشرب ويحدث ،
والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه ، فثبت أنه ما كان حيا قيوما ، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلها ، فهذه الكلمة وهي قوله (
الحي القيوم ) جامعة لجميع وجوه الدلائل على
بطلان قول النصارى في التثليث .
وأما البحث الثاني : وهو ما يتعلق بالنبوة ، فقد ذكره الله تعالى هاهنا في غاية الحسن ونهاية الجودة ، وذلك لأنه قال : (
نزل عليك الكتاب بالحق ) [ آل عمران : 3 ] وهذا يجري مجرى الدعوى ، ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى ، فقال : وافقتمونا أيها
اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل
[ ص: 136 ] من قبل هدى للناس ، فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان ، لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل ; والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقا لا محالة ، ثم إن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله ، فكذلك حصل في
كون القرآن نازلا من عند الله وإذا كان الطريق مشتركا ، فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول
البراهمة ، أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين ، وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد ، ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإله على ما جاء به
محمد عليه الصلاة والسلام ، وما هو العمدة في إثبات نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال : (
إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ) [ آل عمران : 4 ] فقد ظهر أنه لا يمكن أن يكون كلام أقرب إلى الضبط ، وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام ، والحمد لله على ما هدى هذا المسكين إليه ، وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر .
ولما لخصنا ما هو المقصود الكلي من الكلام فلنرجع إلى تفسير كل واحد من الألفاظ .
أما قوله (
الله لا إله إلا هو ) فهو رد على
النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة
عيسى عليه السلام
فبين الله تعالى أن أحدا لا يستحق العبادة سواه .
ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال : (
الحي القيوم ) فأما
الحي فهو الفعال الدراك وأما
القيوم فهو القائم بذاته ، والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم ، من الليل والنهار ، والحر والبرد ، والرياح والأمطار ، والنعم التي لا يقدر عليها سواه ، ولا يحصيها غيره ، كما قال تعالى : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وقرأ
عمر رضي الله عنه (
الحي القيوم ) قال
قتادة ، الحي الذي لا يموت ، والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم ، وآجالهم ، وأرزاقهم ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : الحي قبل كل حي ، والقيوم الذي لا ند له ، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا : الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلهية ، ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حيا قيوما ودلت البديهة والحس على أن
عيسى عليه السلام ما كان حيا قيوما ، وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت . علمنا قطعا أن
عيسى ما كان إلها ولا ولدا للإله تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا .