المسألة الرابعة : في
الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكما وبعضه متشابها .
اعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات ، وقال : إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر ، كقوله تعالى : (
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) [ الأنعام : 25 ] والقدري يقول : بل هذا مذهب الكفار ، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله (
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ) [ فصلت : 5 ] وفي موضع آخر (
وقالوا قلوبنا غلف ) [ البقرة : 88 ] وأيضا مثبت الرؤية يتمسك بقوله (
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 23 ] والنافي يتمسك بقوله (
لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] ومثبت الجهة يتمسك بقوله (
يخافون ربهم من فوقهم )
[ ص: 149 ] [ النحل : 50 ] وبقوله (
الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] والنافي يتمسك بقوله (
ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه : محكمة ، والآيات المخالفة لمذهبه : متشابهة ; وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا ؟ أليس أنه لو جعله ظاهرا جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض .
واعلم أن العلماء ذكروا في
فوائد المتشابهات وجوها :
الوجه الأول : أنه متى كانت المتشابهات موجودة ، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب ، قال الله تعالى : (
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [ آل عمران : 182 ] .
الوجه الثاني : لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه ، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا على المحكم وعلى المتشابه ، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ، ويؤثر مقالته ، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب ، فإذا بالغوا في ذلك صارت
المحكمات مفسرة للمتشابهات ، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق .
الوجه الثالث : أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة ، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد .
الوجه الرابع : لما كان القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه ، افتقروا إلى
تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة .
الوجه الخامس : وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن
القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح ، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات ، فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده .
وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير .
أما قوله تعالى : (
هو الذي أنزل عليك الكتاب ) فالمراد به هو القرآن (
منه آيات محكمات ) وهي التي
[ ص: 150 ] يكون مدلولاتها متأكدة إما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية ، أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها .